كانت مصر فى الأيام الأولى من شهر أكتوبر تواصل الاحتفال بشهر رمضان الكريم ، و كالعادة دأبت كل الجرائد و المجلات على نشر الموضوعات الدينية، و تلك المتعلقة بالصيام وصحة الصائم، ومن بين هذه الموضوعات التى نشرتها صحف يوم 5 أكتوبر اخترنا هذا الموضوع الذى كتبه أحمد زين الكاتب الإسلامى و مدير تحرير جريدة الأخبار فيما بعد. إن غزوة بدر هى آية فى الفن العسكرى الحديث..فيها من فنون الحرب ما يدرس الآن فى الكليات العسكرية.. جاءتنى هذه الدراسة عن الجانب العسكرى لغزوة بدر .وهى دراسة جديدة فى كل جوانبها....أعدها الأستاذ على حسن عمر -المحامى- .. واليوم سأبدا نشر الجزء الأول منها (إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل..استبقوا نبلكم ولا تسلوا السيوف حتي يغشوكم ولا تحملوا عليهم حتى تؤذنوا) «محمد رسول الله» بهذا الأمر الميدانى من القائد العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاض المسلمون معركة بدر إلى النصر يوم الفرقان يوم ألتقى الجمعان، يوم الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرية ..وهذه التعليمات من الرسول صلى الله عليه وسلم هى غاية ما وصل إليه العلم الحديث، وأرقى ما جادت به عبقرية قائد قوة صغيرة ، محدودة السلاح لمواجهة قوة تفوقها فى العدد ثلاث مرات، استعدت للحرب وخرجت لملاقاة المسلمين بتجهيز قوى، وعدة كاملة من سوابغ الحديد والخيل المسومة. وغزوة بدر من الغزوات الحاسمة فى التاريخ أعز الله بها الإسلام وكانت أهم عامل فى ظهوره وسرعة انتشاره، وقد شمل الله تعالى من حضرها من المؤمنين برضاه،وخصهم وأهل الحديبية بالغفران والجنة. أستأذن عمر رضى الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قتل حاطب بن أبى بلتعة ممن حضروا بدراً لمحاولة إفشائه سر غزو الفتح لقريش فى السنة الثامنة من الهجرة فمنعه رسول الله قائلا:»دعه يا عمر..لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فلقد وجبت لكم الجنة –أو فقد غفرت لكم». أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ هاجر إلى المدينة الحرب الاقتصادية على قريش والمشركين، وضرب الحصار الاقتصادى على تجارة قريش الأساسية مع الشام واليمن، وقد نزل قرآن الله تعالى فى هذه التجارة» لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف»أى قوافل تجارتهم إلى اليمن والشام..وطريق تجارة قريش إلى الشام هو طريق(مكة ساحل البحر الأحمر-تبوك-دمشق) والمدينةالمنورة تتحكم بحكم موقعها فى هذا الطريق، ويسهل منها تحقيق الهدف الاستراتيجى بالتعرض لتجارة قريش الأساسية إلى الشام، وإصابة اقتصادياتها بضربات قاصمة..ولذلك وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات ثلاث سابقة لغزوة بدر حققت أغراضها مع القبائل المنتشرة على مدار الطريق بعهود أهم شروطها ألا يظاهروا عليه أحدا. ثم وردت الأخبار بخروج عير قريش بتجارتها الأساسية فى قافلة عظيمة، خرجت من مكة قاصدة الشام ، وفيها كل أموال قريش (قيل فيها خمسون ألف دينار –وألف بعير) بقيادة أبى سفيان بن حرب ومعه سبعة وعشرون رجلا (وقيل تسعة وثلاثون) فيهم عمرو بن العاص ومحرمة بن نوفل (كان على أموال بنى زهرة) فخرج إليها صلى الله عليه وسلم ليعترضهما قبل وصولها للشام فى مائة وخمسين رجلا (وقيل مائتان) ووصل لمكان يسمى العشيرة فوجد القافلة قد مرت قبل ذلك فصالح بنى مدلج بن كنانة وخلفاء بنى ضمره على ألا يظاهروا عليه أحدا ورجع إلى المدينة على عزم التعرض لعير قريش حين عودتها من الشام، فلما وصلته أخبار خروجها من الشام حاملة بضائع ونفائس الشام، قاصدة مكة ندب المسلمين للخروج، ولم يكره أحداً ولم يأمرهم بالاستعداد لحرب، وإنما كان قوله صلى الله عليه وسلم «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا لعل الله ينفلكموها» ولم يصل الندب إلى أغلب رجال الأوس لاقامتهم بالعالية (قرية قرب قباء) بعيدا عن المسجد مع تعجيل رسول الله الخروج خشية إفلات عير قريش فى رجوعها.. وثقل ناس واجاب ناس لم يستعدوا استعدادا كاملا للحرب واجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وثمانون رجلا من المهاجرين وواحد وستون رجلا من الأوس، ومائة وسبعون رجلا من الخزرج، وأعاد من مجموعهم أربعة لم يبلغوا السن ،وبقى ثلاثة عشر وثلثمائة رجل معهم فرسان اثنان وسبعون بعيرا يتعاقب الاثنان والثلاثة والاربعة على بعير واحد..وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة خلت من رمضان من العام الثانى من الهجرة ..وولى على المدينة أبا لبانة بن عبد المنذر الأوسى.وعلى الصلاة ابن أم مكتوم رضى الله عنهما وخلف عاصم بن عدى على قباء وأهل العالية لشيء بلغه عن مسجد الضرار، وعقد اللواء لمصعب بن عمير. ولكن الأخبار عن خروج المسلمين وصلت أبا سفيان بن حرب، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى ليفزع قريش ويستصرخهم للخروج لإنقاذ أموالهم من محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله. -ونجح ضمضم هذا فى إزعاج أهل مكة جميعا، فتجهزوا للقتال، وكانوا بين رجلين إما خارج للقتال بنفسه، وإما باعث مكانه رجلا،ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب الذى بعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة مقابل أربعة آلاف درهم، كانت دينا عليه(وقد قتل فى المعركة). وتجهز حشد المشركين فى أكثر من خمسين وتسعمائة رجل (وقيل ألف رجل) سوى بنى زهرة، الذين خرجوا فى مائة رجل (وقيل ثلاثمائة يقودهم حليفهم الأخنس بن شريق الثقفى وقادوا من الخيل مائة عليها مائة درع، وقيل مئتان من الخيل بدروعهما سوى دروع المشاة ومعهم عدد كبير من الإبل لركوبهم ولحمل أمتعتهم واصطحبوا معهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين رفعا لمعنويات المشركين. وكان يقود هذا الجيش عدد من رجالات قريش. انطلق حشد رسول الله من المدينة يريدون عير قريش حتى وصلوا بدرا بعد مسيرة خمس ليال وأربعة أيام فوجدوا عير قريش (قافلة قريش) قد افلتت، وحلوا بأرض رملية تسيح فيها الأقدام، بعيدا عن الماء ثم عدلوا عن هذا الموقع بمشورة الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصارى. وانطلق جيش المشركين من مكة حتى إذا ما وصلوا الجحقة، صادفهم مبعوث أبى سفيان، وأبلغهم أمره بالرجوع، مادامت أموالهم استنقذت وافلتت من تعرض المسلمين باتخاذه طريق الساحل، والاسراع فى السير حتى نجا، وتردد من كان لا يريد الخروج من قريش ومنهم أمية بن خلف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ولكن أبا جهل رفض أن يرجعوا وقال:والله لا نرجع حتى نحضر بدرا فنقيم فيها ثلاثة أيام وننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان ويسمع بنا العرب وبمسيرتنا جميعا فلا يزالون يهابوننا «وأفلح أبو جهل فى تثبيت من تردد فى الرجوع إلا بنى زهرة الذين اتبعوا أمر قائدهم الأخنس بن شريق الثقفى الذى خطبهم بعد أن سمع كلام أبى جهل:»يا بنى زهرة قد نجي الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم محرمة بن نوفل ..وإنما نقرتم لتمنعوه وماله فارجعوا فإنه لا حاجة لكم إلى أن تخرجوا لغير منفعة، ودعوا هذا(يريد أبا جهل) فرجعوا..ثم إن بنى هاشم أرادوا الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال لقريش :لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع..» ولم يزل حشد المشركين سائرا حتى نزلوا بالعدوة القصوى من بدر على عيون الماء(القليب). أضحى جنود الله أمام موقف آخر مخالف لما كانوا قد ندبوا للخروج له، فإن عير قريش (قافلتها) قد أفلتت وأصبحوا فى مواجهة جيش المشركين..وبلغ رسول الله قولة أبى جهل، وكان يخشى ما يخشاه أن يتسامع العرب بخروج حشود قريش ومسيرتهم وتحديهم للمسلمين دون أن يلقوا نزالا منهم..فتهاب العرب قريشا، ولا تلقى دعوة الإسلام إلا انتكاسة وإعراضا لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى..ثم إن الله سبحانه وتعالى وعد الرسول إحدى الطائفتين (العير أو النفير) فكان لابد من تقدير الموقف ..ثم الإعداد للمعركة. تقدير الموقف: بدأ رسول الله بما يعبر عنه فى العلم الحديث بتقدير الموقف فى مجلس الحرب، فجمع الناس وبسط امامهم طريقين :اولهما- ان يعودوا إلى المدينة دون صدام مع صناديد قريش، الذين حرجوا لهم كل صعب وذلول، وفى هذا تصغير لشأن المسلمين وتفويت للجهاد فى سبيل إعلاء كلمة الله، وتمكين القبائل من الجرأة عليهم، حين تتسامع العرب بحشود قريش وتحديهم لمحمد وحزب الله وتراجع المسلمين حرصا على حياتهم ..فتصيب الدعوة إلى الله بنكبة كبرى فى داخل المدينة وفى القبائل ..وثانيهما-أن ينازلوا المشركين ساعين إلى الشهادة فى إعلاء كلمة الله..فإن انتصروا فى المعركة (وهو ما وعد الله به رسوله)فإنها تكون انتصارا للعقيدة ودليلا عمليا على رسوخها ، وترفع من هيبة المسلمين ويخاف أعداؤهم فضلا عما يصل إليه المسلمون من قتل وأسر أشراف قريش أئمة الكفر واغتنام اسلابهم..ثم قال اشيروا على أيها الناس .(ما كان رسول الله بحاجة إلى أن يقرر الناس المعركة والله مؤيده بنصره وقد وعده إحدى الطائفتين( العير أو النفير) ..ولكنه أراد أن يثبت من إرادة القتال لديهم .وأن يشاورهم فى الأمر).