سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حكاية 453 جنديا أذهلوا فرنسا..خاضوا 48 معركة لم يهزموا في واحدة منها..«الأورطة المصرية» بالمكسيك تنجح في إنقاذ قادة جيش فرنسا من نيران الثوار..«نابليون» أصرعلى توديع الحملة بنفسه ومنح جنود مصر الأوسمة
" إن هولاء الجنود المصريين والسودانيين الذين لا تسمح نفوسهم بالهزيمة يستحقون كل ثناء.. وإني لم أر في حياتي مطلقا قتالا نشب في سكون عميق وحماسة نادرة مثل ذلك الذي خاضه هولاء الجنود، فقد كانت أعينهم وحدها هي التي تتكلم وكانت جرأتهم تذهل العقول وتحير الألباب حتى لكأنهم ما كانوا جنودا بل أسودا ". كانت هذه هي شهادة القائد الفرنسي ليجيه عن الأورطة المصرية السودانية التي أرسلها والي مصر إبراهيم باشا لمساعدة الجيش الفرنسي في المكسيك، في إحدى صفحات بطولة الجيش المصري خارج حدوده. وتعود قصة هذه الأورطة وهي لفظة تركية تعني " الكتيبة" إلى طلب نابليون الثالث من سعيد باشا أن يمدها بحامية مصرية خاصة أن أراضي المكسيك كان تسمى بالأيادى الحارة ومناخها تنتشر فيه الحمى الصفراء وبالتالى يتطلب بنية جسدية محددة وبسالة في الجنود واستجاب الخديو سعيد لهذا الطلب لكنه أرسل حامية سودانية مصرية قوامها 453 ما بين جندى وصف ضابطا مكونة من أربع بلوكات " سرايا " تابعة للالاي " لواء " المشاة التاسع عشر، وكان جنودها يتألفون من مصريين وسودانيين، وغادرت الأورطة الإسكندرية في 8 يناير 1863 بقيادة البكباشي " مقدم جبر الله محمد "، ووصلت إلى ميناء " فيراكوز " أكبر موانئ المكسيك في 23 فبراير. وقد شكلت هذه الأورطة علامة في تاريخ الجيش المصري، حيث كانت التقارير الفرنسية عنها دائمة الإشادة بهم، ففي أول التقارير التي جاءت عنهم جاء "الأورطة المصرية بحسن الانضباط شكلا وسلوكا، وأنها ذات استعداد عسكري يثير الإعجاب، لكن لأن أسلحتهم تخالف الأسلحة الفرنسية فقد تم استبدالها بأسلحة فرنسية على أن تعاد إليهم أسلحتهم عند عودتهم لمصر ولما كان التفاهم مع الأفراد صعبا بسبب اختلاف اللغة، فقد تمت الاستعانة ببعض الجنود الجزائريين للقيام بأعمال الترجمة بينهم وبين الفرنسيين. ووصفت التقارير الرسمية قيام جنود هذه الأورطة بأعظم الخدمات نظرا لشجاعتهم وبراعتهم في إطلاق النار، وبذلك أمكن الاعتماد عليهم في المناطق والمعارك التي لم يستطع الجنود الفرنسيون خوضها، كما قامت الأورطة المصرية بصد الغارات التي كانت تشنها العصابات المكسيكية ضد قوافل الذخيرة والمخافر الأمامية". وقبل مباشرة الأورطة لأعمال القتال قامت القيادة الفرنسية بإعادة تنظيمها وتشكيلها وفقا للتنظيم الفرنسي وما كادت الأورطة تستقر في منطقتها حتى أصدرت لها القيادة الفرنسية الأوامر بتطهير الأراضي المكسيكية من عصابات الثوار التي كانت تعيث في البلاد فسادا وعندما حوصرت مدينة ( بوبيلا ) ثاني أهم المدن المكسيكية في الفترة من 23 يناير الي17 مايو 1863 بواسطة الثوار ثم سقطت واستسلمت حاميتها المكونة من 26 جنرالا و900 ضابط و12000 جندي، كان من الضروري الاحتفاظ بطرق المواصلات بينها وبين الساحل، في حين كان الثوار المكسيكيون دائمي قطعها، لذلك تم تكليف الأورطة المصرية بحراسة هذا الخط في منطقة الأراضي الحارة، ويمكننا معرفة نتيجة أداء الجيش المصري لهذه المهمة في تعبير القائد الفرنسي العام في مدينة فيراكروز عن إعجابه بحسن أداء الأورطة المصرية في تقريره الذي قال فيه: " إنه يعجز عن مدى امتنانه وشكره لهولاء الجنود الذين يستحقون الإطراء والثناء من جميع الوجوه ". ويأتي تأبين البكباشي جبر الله محمد الذي سقط جراء الحمى الصفراء ليكشف مدى تعظيم الجيش الفرنسي لهذه الأورطة حيث جاء في تقرير القيادة الفرنسية لتأبين الضابط: " لقد كان على جانب كبير من دماثة الخلق والتحلي بصفات عسكرية نادرة، كما كان محترما من من الجميع لسلوكه الحسن وقيامه بالواجب على الوجه الأكمل وتقديره الكامل للمسئوليات الملقاة على عاتقه ". وفي 21 يونيو 1863 أقيم في مدينة " فيراكروز " احتفال حضره القائد الفرنسي العام ومثلت فيه جميع السلطات العسكرية والمدنية وقد عهد إلى الأورطة المصرية القيام بالتشريفات، وبعد انتهاء الاحتفال قامت بالاستعراض في أكبر ميادين المدينة، كما أقيمت لها احتفالات باهرة أخرى في كل المدن، وتقديرا من القائد العام الفرنسي المارشال "فوريه" على حسن الأداء القتالي لهذه الاورطة المصرية فيما خاضته من معارك كافأها على ذلك في 28 سبتمبر 1863 بأن تؤلف منها " كتيبة الجنود الممتازة "، كما منح أفرادها علاوة نقدية، وميزوا بشارات صفراء توضع على أذرعهم، الأمر الذي أحدث أثرا عظيما في نفوس جنودها وضباطها، ودل على عظيم تقدير القيادة الفرنسية لهذه الأورطة وجدارة جنودها واستحقاقهم. وتعد أهم المعارك التي خاضتها الأورطة وكشفت عن عظمتها، معركة 1863 المعروفة باسم معركة القطار، وتعود أحداثها إلى قيام عصابات بخلع قضبان السكة الحديدية في المنطقة المحيطة بالجبال في الطريق من مدينة فيراكروز وسوليداد، مما اضطر القطار الذي كان يحمل 50 شخصًا من القيادات الفرنسية إلى التوقف بعد سقوط عدد من عربات القطار، واستغلت العصابات التوقف فهاجموه بالنيران من المرتفعات التي كانوا يحتلونها من الجانبين، وكان يحمي القطار 7 فقط من الجنود المصريين، وقد اتخذوا مواقع إطلاق نيرانهم داخل وخارج عربات القطار، وكانوا متأهبين للاشتباك فور ظهور المهاجمين ودخولهم في مرمى أسلحة المصريين. وقد أدت كثافة نيران الثوار المكسيكيين إلى إصابة القائد الفرنسي " ليجيه " فحمله أحد الجنود المصريين إلى داخل القطار وأصيب المصري أيضا، فحمله جندي مصري آخر ونقله هو والجندي المصاب إلى داخل القطار واستمر الجنود المصريون المتبقون وهم خمسة جنود في المقاومة واصطياد الثوار المكسيكيين المتفوقين عددا وتسليحا، مما أوقع خسائر جسيمة في صفوفهم اضطرتهم إلى إيقاف إطلاق النار، والعودة إلى مواقعهم في الجبال، ولم يستطيعوا الاقتراب من القطار إلا لمسافة لا تزيد على بضعة أمتار ومن وصل منهم القطار سقط قتيلا، بفعل نيران المصريين، وساد الهدوء الموقف حتى وصلت نجدة مصرية أيضا من مدينة " تيجريا " وقد سقط في هذه المعركة اثنان من الجنود المصريين وأصيب آخران. ووصف القائد العام الفرنسي دور المصريين في هذه المعركة في تقريره إلى الحكومة المصرية قائلا: " لقد أبلى المصريون بلاء حسنا في هذه الموقعة رغم عددهم البسيط وأظهروا من رباطة الجأش ما يندر وقوعه، وكانوا جميعا موضع إعجاب الضباط والجنود الفرنسيين الذين قاتلوا إلى جانبهم، وليس هناك أدنى شك في أن النجاح الذي أحرزناه إنما يرجع في معظمه إلى تلك المقاومة الجديرة بالمدح والثناء لهولاء المصريين خصوصا بعد أن اتضح بعد ذلك أن عدد المكسيكيين الذين هاجموا القطار كانوا نحو 300 فرد بين مترجل وفارس، وقد تمت ترقيتهم جميعا ". خاضت الأورطة المصرية-السودانية خلال الفترة التي قضتها في المكسيك من 23 فبراير 1863 إلى 12 مارس 1867 أي أربع سنوات و17 يوما، 48 معركة حربية كبرى، ولم تهزم في أي معركة على الإطلاق، رغم أنها في جميع المعارك قابلت أعدادا مضاعفة لعدد أفرادها، أما المديح والثناء اللذان وجها إليها من قبل القيادة والحكومة الفرنسية عقب كل معركة فكثير جدا ويصعب الحصر، فعندما أبحرت الأورطة من فيراكروز في 12 مارس 1867 حرص الإمبراطور نابليون الثالث على استعراضها بنفسه، حيث وصلت إلى باريس في نهاية أبريل 1867، وكان يرافقه جاهين باشا وزير الحربية المصري وقتها وقام الإمبراطور بنفسه بتوزيع الأوسمة والنياشين على ضباط وجنود الأورطة، ثم غادرت الأورطة فرنسا إلى مصر ووصلتها في أواخر مايو 1867 وقد خسرت 140 شهيدا، وقد استعرضها الخديو إسماعيل في 28 مايو 1867 في فناء قصر رأس التين بالإسكندرية وأصدر قرارا بترقية جميع ضباطها وجنودها. المصادر: مجلة النصر العسكرية " العدد 872: فبراير 2012 ". "بطولات الأورطة المصرية السودانية في المكسيك" الأمير عمر طوسون