استمتع التونسيون بممارسة الديمقراطية، واختارت أصواتهم من يرونه مناسبا لمرحلة بناء تونس ما بعد الاستبداد، بينما يتواصل الحديث والنقاش وطرح الأسئلة عن النتائج الذى خرجت من صناديق الانتخاب لتضع حزب النهضة الإسلامى فى المقدمة، فما إن تجلس على مقهى أو تركب أى وسيلة مواصلات أو تحضر جلسة نقاشية بين مجموعة من التونسيين، ستجد أن محور الحديث واحد، وهو ماذا سيفعل الإسلاميون بتونس؟ أسئلة أخرى عبر عنها عدد من الأحزاب والتيارات، سواء التى تضم مناضلين قدامى وتقدميين أو من يطلقون على أنفسهم «الليبراليون الديمقراطيون»، فهم يتساءلون جميعا كيف تمكن «النهضة» من الحصول على هذا العدد من الأصوات؟ لماذا خذلنا الناخبون؟ وما الذى جعل المستقلين يغيبون بهذا الشكل؟ وما مصير المدنية التونسية؟ الإجابة جاءت أولا فى مظاهرة خرجت أمام قاعة المؤتمرات فى العاصمة تونس، تنديدا بالتجاوزات التى ارتكبتها حركة النهضة فى أثناء عملية التصويت، متهمين القائمين على الحزب بشراء أصوات الناخبين خصوصا فى القرى والمناطق الفقيرة، وبتوزيع كراتين تحتوى على مواد تموينية، وهو ما اعتبره المتظاهرون تجاوزا واضحا لمبادئ الديمقراطية والعملية الانتخابية. الهتافات التى رددها المتظاهرون هاجمت بشكل واضح استخدام «النهضة» للدين كدعاية انتخابية، مرددين هتافات «تونس حرة حرة.. والقديس بره بره»، بينما ظهرت لافتات كتب عليها «يغشون ويدعون الإسلام» و«ويل للمطففين». وبينما يبدو الغضب واضحا من أساليب «النهضة» الانتخابية، يمضى التونسيون فى سجال جماعى يطرح الأسئلة السابقة، بينما يشاركهم الشعور بالمرارة عدد من الحالمين ممن شاركوا فى ثورة 14 يناير، أو كما يسميها التونسيون «ثورة الرابع عشر من جانفى 2011»، فهم يرون أن النهضويين «نسبة إلى حزب النهضة» لم يشاركوا فى الثورة، إما بحكم وجودهم فى السجن وإما خارج تونس، أو اتقاء لشر نظام ناصبهم العداء بالحديد والنار. يقول المحلل السياسى التونسى قيس بن سعيّد ل«التحرير» عن تلك الحالة من الجدل السياسى بين أوساط المهتمين بالسياسة والشأن العام: «الحقيقة أن تونس ما بعد الثورة شهدت تجاذبات سياسية وجدلا واسعا عاد على البعض بنتائج سلبية، بينما نجح البعض الآخر فى تحقيق نتائج إيجابية». يضيف سعيّد «حركة النهضة آثرت أن تعمل وتنشط على أكثر من جهة ومسار، فأعادت ربط الصلة بخلاياها الشعبية وقياداتها المشتتة جغرافيا، زد على ذلك أن إطار المنافسة الانتخابية لم يكن متساويا من حيث الوسائل التى تروج لخطاب النهضة دون أن يطلب منها ذلك، كما يحدث فى المساجد والجوامع، بالإضافة إلى أن «النهضة» شديد التنظيم». ومن الأسباب التى تفسر فوز حركة النهضة، من وجهة نظر القيادى فى الحركة نور الدين البحيرى، هو «حسن إدارة» معركة الاستقطاب الأيديولوجى، الذى ساد خلال الأيام الأولى بعد الثورة، وكان له تأثير سلبى فى البداية على الحركة، حيث نجح خصومها فى الحد من شعبيتها وجماهيريتها عبر إظهارها على أنها تمثل «خطرا» على القيم التقدمية والعلمانية للمجتمع التونسى، لكن الإسلاميين نجحوا فى «إدارة هذه المعركة»، وبالتالى فخرج «النهضة» بأقل الخسائر، وسحب فزاعة الخطر الأصولى من التداول فى المجتمع ولدى النخبة أيضا. أسئلة أخرى كانت محور جدل بين أوساط التونسيين المنشغلين بالعمل السياسى، ليبدأ التساؤل عن مصير المكاسب المدنية فى تونس، من حيث النظام الجمهورى وقوانين الأحوال الشخصية، بما فيها تلك القوانين التى تخص المرأة، وهنا كان موقف «النهضة» قبل الانتخابات واضحا، فقالت إنه لن يحصل أى تغيير ولن يقع فرض أى شىء على الحريات الفردية لا فى الملابس، ولا فى المأكل والمشرب، ولا فى المعتقدات، ولا فى أىٍ من الحريات الأخرى. البعض يقول إن ذلك «كلام انتخابات» وقد تتغير الأمور بعدها فى الفعل، إلا أن عديدا من المراقبين يرون صعوبة إمكانية إقرار أى تراجع فى المبادئ المدنية والاجتماعية فى تونس. وبعيدا عن نتائج الانتخابات، ومن أجل التطلع إلى مرحلة قادمة إيجابية تساعد على الانتقال نحو الديمقراطية، فإن هناك تأسيسا لسلوك سياسى عقلانى عبر عنه أحمد نجيب الشابى رئيس قائمة الحزب الديمقراطى التقدمى، بقوله «التقدمى فشل فى انتخابات التأسيسى»، مشيرا إلى أنه لم يحقق -وفقا للنتائج الأولية- النجاح الانتخابى المأمول. الشابى أضاف فى ندوة صحفية عقدها الحزب مساء أول من أمس، إن «التقدمى لن يكون جزءا من الأغلبية، ولكنه سيلعب دور المعارضة الديمقراطية سواء فى صياغة الدستور الجديد أو فى تسيير شؤون البلاد». بينما أكدت الأمين العام للحزب مية الجريبى، القبول بنتائج الانتخابات، معتبرة أنها نتائج «لا تساوى حجم المجهود الذى قام به التقدمى»، وأوضحت أنه سيتم التدقيق والبحث فى أسباب فشل الحزب بهذا الشكل، وتحليلها لاستخلاص العبر. أما حزب المؤتمر بزعامة المنصف المرزوقى، الذى كان أقوى الأحزاب منافسة ل«النهضة» على أصوات الناخبين ليأتى فى المركز الثانى وفق النتائج الأولية، فأكد أنه لم يكن هناك أى تحالف انتخابى بينه والنهضة، وقال المرزوقى إن المعركة ليست أيديولوجية بين إسلاميين وعلمانيين، كما يحاول البعض تصويرها، لإدخال الحياة السياسية فى متاهات، فمعركة تونس هى ضد التخلف والفقر، وتونس بلد لا يمكن أن يحكمه إلا أهل الوسط. ومن أهل الوسط إلى أهل «الفلول»، حيث كانت كبرى المفاجآت فى الانتخابات التونسية، هى فوز «العريضة الشعبية» وهى مجموعة قوائم مستقلة يرأسها الهاشمى الحامدى، المعروف داخل الأوساط السياسية والصحفية فى تونس بأنه كان من كبار «الزمارين»، كما يقول التونسيون، لنظام بن على. ووفق النتائج الأولية فقد فازت قوائم العريضة الشعبية بنحو 10% من الأصوات، خصوصا فى ولايتى سيدى بوزيد وقفصة، وهو أمر تفاجأ به جميع الحاضرين فى المؤتمر الصحفى إلى حد إثارة الضحك من ثقل المفاجأة، والمفارقة أيضا أن أصوله تعود إلى قرية سيدى بوزيد، التى كان ابنها محمد البوعزيزى، سببا مباشرا فى قيام الثورة التونسية! الهاشمى تلاحقه أيضا اتهامات بارتكاب تجاوزات فى أثناء التصويت، حيث استخدم قناته الخاصة «المستقلة» فى الدعاية لقائمته طوال فترة التصويت، كما رافقت كاميرا القناة التى تبث من خارج تونس مرشحى القوائم التابعة للعريضة فى أثناء تصويتهم ولقائهم الناخبين داخل لجان التصويت، وهو ما أثار هجوما عنيفا من جانب المراقبين على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، مطالبين بمقاضاة الهاشمى وقائمته بسبب تلك التجاوزات.