توفيق الدقن.. شرير السينما المصرية، صاحب الإفيهات الشهيرة، عبده دَنسْ الذي خلع جلباب والده الأزهري، رغم حلاوة صوته في تلاوة القرآن، وارتدى ثوب فنان احتل مكانة مميزة في قلوب الجمهور العربي، وكان من بين القلائل الذين نجحوا في المزج بين الشر والكوميديا، فهو اللص والبلطجي والسكير والعربيد الذي لم يخل أداؤه من الطرافة وخفة الظل مبتعدًا عن النمط التقليدي للشرير صاحب "الدم التقيل"، مسطرًا بأحرف من ذهب مشوارا فنيا طويلا امتد لأربعة عقود انتهى بالرحيل. النشأة توفيق أمين محمد أحمد الشيخ الدقن، المولود في 3 مايو 1924، بقرية هورين بمركز "بركة السبع" محافظة المنوفية، سمّاه والده الشيخ الأزهري على اسم شقيقه الذي رحل حرقًا قبل ولادته بثلاثة أعوام، وانتقل مع أسرته إلى المنيا، حيث محل ميلاد والدته، ولم يكن يخطر ببال الطفل التمثيل حتى المرحلة الثانوية، فكان يتمتع بصوت عذب في تلاوة القرآن، حتى إن والده كان يُسميه ب"الشيخ العجوز"، وكان يريد أن يكون لاعب كرة قدم، حيث وضع أسطورة الأهلي مختار التتش مثله الأعلى، وكانت ملاعب المنيا كلها تعرف اسمه، وكان أيضًا ملاكمًا عنيفًا، ثم حدثت صدفة غيّرت مجرى حياته إلى الفن، حيث حرص على مشاهدة مسرحية في جمعية الشبان المسلمين بالمنيا، وغاب أحد الممثلين، فاختارته الفنانة روحية خالد للعب الدور، ووافق. بداية المشوار.. والأستاذ عمل في البداية موظفًا في هيئة سكة الحديد كي يساعد والده، لكنه كان قد رغب في امتهان الفن، وهو الحلم الذي رفضه والده، إلا أنه تمسك بحلمه بإيعاز من والدته التي شجعته، وحصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1950، وبدأ حياته الفنية منذ أن كان طالبًا في المعهد من خلال أدوار صغيرة، ورُشح حينها للقيام بدور أمام الفنان محمود المليجي في فيلم "أموال اليتامى"، وفي أول مشهد له أمامه أخفق نظرًا لارتباك الممثل الشاب، وبعد دقائق من انتهاء المشهد، كان هُناك مشهد آخر داخل حجرة المليجي، حيثُ جلس توفيق الدقن مُعتذرًا ويبرر ما حدث: "سبب ارتباكي أمامك هو أنتَ"، يتنهد الدقن للحظات إلى أن يستجمع قواه ويُكمل كلماته قائلًا: "يا أستاذ محمود، عليك أن تعلم أن والدتي هي التي وقفت بجواري حتى أعمل بالتمثيل، أبي كان رافضًا أن أمتهن هذه المهنة، كان يريد أن أكون أزهريًّا مثله، لكن والدتي ساعدتني ووقفت بجواري، وكان لها شرط وحيد لكي تدعمني وتواصل الوقوف بجواري"، وبصدرٍ رحب دفع المليجي الفضول ليسأل: "ما هو هذا الشرط؟"، فأجابه الدقن: "اشترطت والدتي أن أكون مثلك"، فردّ عليه المليجي ضاحكًا: "اعتبر نفسك يا راجل محمود المليجي نفسه". شرير السينما المصرية أول عمل سينمائي له كان من خلال فيلم "ظهور الإسلام" من إخراج إبراهيم عز العرب عام 1951، والتحق بعد تخرجه بالمسرح الحر لمدة سبع سنوات، كما عمل في فرقة إسماعيل يس، ثم التحق بالمسرح القومي، وظل عضوًا به حتى إحالته إلى التقاعد، واشتهر بأدوار الشر، وإن لم يخل أداؤه من الطرافة وخفة الظل، إلى جانب استيفان روستي، الذي كان يعتبر المنافس الأول له في ذلك "التميز"، وكان ناجحًا في أدوار اللص والبلطجي والسكير والعربيد إلى درجة أن بسطاء الناس كانوا يصدقونه فيما يفعله ويكرهونه بسبب تلك الأدوار، ويقول في مذكراته التي أهدتها أسرته لمكتبة الإسكندرية: "أنا فى حياتى الخاصة مش شرير أبدا زى الناس مابتشوفنى فى أعمالى، أنا بعامل الناس كلهم معاملة طيبة ومفيش فيها عنف أو شر على الإطلاق". الإيفهات ما ساهم في نجومية الدقن، هو "إفيهاته" الشهيرة في الأفلام السينمائية، ومن أشهرها "ألو يا همبكة"، و"يا آه يا آه"، و"أحلى من الشرف مفيش"، و"صلاة النبى أحسن"، و"انتباه يا دنس"، و"بلد بتاعت شهادات صحيح"، وقال عن ذلك: "أنا أخذت فكرة اللزم دي من شكوكو، كان دائمًا يقول الحاجات دي في المنولوجات بتاعته وتنتشر والناس ترددها، وعبده دَنسْ اللي قال (أحلى من الشرف مفيش) شخصية حقيقية بكل أبعادها، وكنت التقى به على مقهى في عماد الدين". فيلموجرافيا بلغ رصيد توفيق السينمائي، 450 فيلمًا وفقًا لمذكراته، ويقول عن ذلك: "90% منها مع الأستاذ محمود المليجي، وكنت بتعلم منه وأستفيد، وكانت تبقى منافسة حلوة بروح مرحة وصافية، ويوم ما مات لم أصدق نفسي وبكيت محمود المليجي أستاذي وأخويا"، وأشهر أفلامه "ابن حميدو، مراتي مدير عام، البحث عن فضيحة، سر طاقية الإخفاء، غرام بثينة، درب المهابيل، صراع في الميناء، أرض السلام، بورسعيد، ابن حميدو، ساحر النساء، هل أقتل زوجي، امرأة ورجل، عصابة الشيطان، الغفران، على باب الوزير، خرج ولم يعد"، ومن أهم مسلسلاته "المحروسة 85، القط الأسود، مارد الجبل، أحلام الفتى الطائر، ألف ليلة وليلة، حلم الليل والنهار، القط الأسود، غريب في المدينة"، وقدّم للمسرح العديد من الأعمال، وأهمها "عيلة الدوغري، بداية ونهاية، سكة السلامة، المحروسة، الفرافير، عفاريت مصر الجديدة، الفرافير، مشهد من الجسر، حسبة برما، الناس اللي تحت، خيال الظل، سليمان الحلبي، بير السلم، انتهى الدرس يا غبي، انتيجون، أنا وهو وهي". في حديث إذاعي مع الكاتب محمود السعدني، وجه له الأخير سؤالا حول لماذا أصبح كالآلة يشارك في أعمال كثيرة في السينما والإذاعة والمسرح، ولا يقدم أدوارًا تضيف له، فكانت إجابة الدقن صادمة، فقال إنه كفنان مسرحي يتقاضى أجرًا من المسرح يصل إلى 50 جنيهًا، يتم خصم منها الضرائب وبدل سفر وأشياء أخرى ليصل المبلغ الذي يتقاضاه إلى 19 جنيهًا، وفي النهاية هو إنسان لديه أسرة وأبناء والتزامات. أضرار إجادة أدوار الشر قدمت والدته من صعيد مصر للعلاج في القاهرة، إلا أنها رحلت بعد أن اعتقدت أنه بالفعل شرير ولص وسكير، بعدما نعته أحد الناس المهووسين بشخصيات الأفلام أثناء سيرهما بسيارته في الطريق العام بشارع عماد الدين، ولم يسمح الظرف بأن يشرح له أن هذا مجرد تمثيل، فقد كانت تجلس بجواره، وماتت قهرًا بعد أن اعتقدت أن ابنها الوحيد بهذه المواصفات، ولكن نجله ماضي الدقن، أكد لبرنامج "ممنوع من العرض"، عبر فضائية "الحياة"، فبراير 2016، أنها لم تمت وهي غاضبة من ابنها. عندما سكن لأول مرة في العباسية ذهب ليشتري لحمًا من دكان جزار يقع تحت بيته، فطارده الجزار بالساطور، لأنه لا يسمح للصوص بدخول محله، وظل لعدة أشهر حذرًا عند دخوله وخروجه من البيت، وكان من المقرر أن يشارك الدقن في فيلم "الرسالة" 1977، للمخرج الأمريكي السوري الراحل مصطفى العقاد، لكن تم استبعاده، ما جعله يستشيط غضبًا، وفي إحدى السهرات، وبعد عرض الفيلم، توجه الدقن للعقاد، الذي كان جالسًا على إحدى الطاولات، وسأله عن سبب استبعاده من الفيلم، فأجابه بأن الفيلم ديني، وأن كل أدواره الفنية تنحصر في السكير والبلطجي واللعوب واللص، فعقب توفيق بأنه كان من الممكن أن يرشحه لدور واحد من الكفار في الفيلم، إذا كان خائفًا على سمعة الإسلام منه. الجوائز حصل على العديد من الجوائز، ومنها وسام العلوم والفنون للطبقة الأولى سنة 1956 من الرئيس جمال عبد الناصر، ووسام الاستحقاق، وشهادة الجدارة في عيد الفن سنة 1978 من الرئيس محمد أنور السادات، ودرع المسرح القومي، وجائزة اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وجائزة كتاب ونقاد السينما وجمعية الفيلم. الرحيل الدقن وصل إلى سن المعاش في أعماله الفنية أيضًا، وظهر هذا في تعامل المخرجين معه بكتابة اسمه على الأفيش بعد فنانين أصغر منهُ قيمة وسنًّا، ثم أصيب بمرض الفشل الكلوي، وأخفى ذلك عن الجميع، ولم يستسلم للمرض حتى عند دخوله المستشفى، فلم يقبل عدم قدرته على السير واستخدم كُرسي متحرك كبديل مؤقت. وروى الماكيير محمد عشوب، في برنامجه، عن الدقن في أيامه الأخيرة، فيقول: "كان لا يترُك المصحف أو يفوته فرض، حتى أثناء التصوير، تحس إن ربنا رضي عليه قبل وفاته، اتحوّل، بقى فيه تقارب بينه وبين ربنا، كان يقرأ القرآن وختمُه أكثر من مرة، ويقرأ الأحاديث في أواخر أيامه.. بقى ماشي لا يحمل إلا القرآن"، وعند تصويره آخر أعماله الفنية "المجنون"، داهمته ذبحة صدرية، وكما يقول نجله: "وقتها كلموه عشان كان في تصوير في (ستوديو مصر)، مقدرش يقولهم لأنه مكنش يحب يقول أنا تعبان، قالهم هجلكم بكرة"، لكن النهار لم يُمهله ليفي بوعده الأخير، وفي 27 نوفمبر عام 1988، رحل توفيق الدقن، وكانت آخر كلماته لابنه: "لم أترك لك شيئًا تخجل منه.. سيسعون للبحث في تاريخي بعد وفاتي ولكنهم لن يجدوا شيئًا مخزيًا".