"تفنى الأجساد ولا يفنى التاريخ بمقدراته الواسعة".. كلمات ومواقف وخطى شكلت ذاكرة الأمم لتبقي الشاهد الحاضر على البقاء والوجود والرحيل لرموز التراث. "شرير السينما المصرية، واللص السكير الذي ماتت والدته كمدا عليه دون ذنب حقيقي ارتكبه، أتى إلى الحياة كبدل فاقد، كما يحب أن يصف نفسه، ووفد إلى الفن كبدل غائب ليصنع مشوارًا فنيًا حافلًا بأدوار الشر، يدركه الجميع ولا يسقط من ذاكرة السينما المصرية"، إنه توفيق أمين محمد أحمد الشيخ الدقن. ولد الدقن فى مركز ''بركة السبع'' محافظة المنوفية، وانتقلت أسرته إلى صعيد مصر ليعيش في المنيا طفولته وبداية مرحلة الشباب، على الرغم من مرور 27 عامًا على رحيله إلا أنه مازال حاضرا بيننا يتذكره الجمهور ولا تنسى الشاشة أفلامه . بدل فاقد وفد إلى الحياة في الوقت الذي كانت تستعد فيه الأسرة لتوديع طفلا آخر اسمه ''توفيق'' بلغ من عمره 3 سنوات، وبوفاته قرر الأب ألا يستخرج شهادة وفاة له ولا شهادة ميلاد للمولود الجديد ليعيش توفيق الدقن باسم شقيقه وبعمر يزيد عن عمره الحقيقي بثلاث سنوات، لذلك كان توفيق دائما يقول ''أنا عشت حياتي بدل فاقد''، "وفيه 3 سنين ضايعين مني محسوبين عليَّ في الحياة وأنا ماشفتهمشي". لم يكن "الدقن" عاشقا للفن أو هاوي له فقد كان يميل إلى الرياضة ولعب كرة القدم والسلة والبوكس، وكان شابا منضبط منضم إلى جمعية الشبان المسلمين في المنيا وبعدها في مصر، إلا أن الصدفة لعبت دورها في تغيير مسار حياته ليكون واحدًا من أشهر نجوم السينما المصرية والعربية، ونجمًا مسرحيًا من الطراز الأول. صدفة دخل الدقن إلى عالم الفن عن طريق الصدفة، عندما كانت تنظم جمعية الشبان المسلمين احتفالا فنيا، ومسرحية فتغيب الفنان سعيد خليل عقب إصابته نوبة قلبية، وأثناء بحثهم عن شخص يؤدي الدور، مر الدقن من أمام الفنانة روحية خالد لتصر على أن يقوم هو بهذا الدور، وقامت بإقناعه بنفسها بعدما رفض عرض صديقه رئيس الفرقة، وكان ذلك أول الأدوار لصعود سلم المجد. انتقل الراحل إلى القاهرة عقب وفاة والده، ليعمل في السكة الحديد، ويتكفل بأسرة كبيرة هو معيلها الوحيد، أثناء وجوده في القاهرة كان له صديقًا هو الفنان صلاح سرحان، كما تعرف على عدد آخر من الفنانين من بينهم فريد شوقي، عبد المنعم مدبولي، وشجعه الجميع على الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية والذي كان مولود جديد يبحث عن طلاب لعامه الأول، ولكنه فشل مؤكدا أن اللجنة كانت تريد عددًا معينًا واختارتهم من بين الفنانين الذين لهم ثقل في الوسط الفني ومحترفين للفن مثل الفنانان فريد شوقي وصلاح سرحان. أغرب تليغراف في السنة الثالثة من المعهد، فوجئ توفيق بأغرب تليغراف رآه في حياته، كان التليغراف من الفنان المسرحي الكبير زكي طليمات يستدعيه ليلتحق بالدفعة الثالثة للمعهد، لينجح توفيق في هذا العام دون اختبار حقيقي، بدأ "الدقن" مشواره الفني ككومبارس عندما كان طالبًا بالمعهد، وظهر لأول مرة في دور فلاح صغير ثم شارك الفنان "فريد شوقي" عام 1951م في فيلم" ظهور الاسلام"، وبعد تخرجه التحق بالمسرح الحديث، إلا أن ملامحه الغليظة أهلته لأدوار الشر التي أجادها فسطع نجمه وذاع صيته كأحد أبرز نجوم السينما في الخمسينيات. اللص السكير اشتهر الدقن خلال مشواره الفني بتقديم دور اللص والبلطجي ''العربيد''، ولأن الجمهور وقتها كان يتأثر بآداء الفنانين لدرجة لا تجعلهم يفصلون بين حياته الخاصة وبين ما يقدمه على الشاشة، فذهب مرة ليشتري لحمًا من محل جزارة، فطارده الجزار بالساطور، لأنه اعتقد أنه شرير بالفعل، وفوجئ مرة بسيدة تناديه يا "سكير يا لص"، حتى وصل إلى والدته أن ابنها أصبح سكيرًا ولصًا، فصدقت الأم واعتقدت أن ابنها ''الملتزم'' ضل طريقه في القاهرة، وقبل إن يستطع شرح الأمر لها ماتت غاضبة منه وعليه. "أحلى من الشرف مفيش" اشتهر "الدقن" بالعديد من الإفيهات، مثل "أحلى من الشرف مافيش"، ''العلبة دي فيها ايه''، ''ألو ألو يا همبكة''، ''يا عيني على الصبر''، ''صلاة النبي أحسن'' "ألو يا أمم" وغيرها، لكنه في مرة قال: أخذت هذه اللزم من شكوكو لأنه كان دائمًا يقول هذه الكلمات في المنولوجات بتاعته وكانت تنتشر بين الناس". بين السينما والمسرح قدم توفيق عددًا كبيرًا من الأعمال المسرحية التي تجاوزت المائة عمل، منها روايات كانت بطولته المُطلقة، على عكس السينما التي لم تمنحه البطولة المُطلقة إطلاقا ولكنها صنعت منه نجما كوميديا، ووضعته بين الأشرار الظرفاء، الذين يجسدون أدوار الشر ، وكان أول ظهور لتوفيق الدقن في السينما من خلال فيلم ''ظهور الإسلام'' عام 1951، أما آخر أفلامه فكان اشتراكه في فيلم ''المجنون''، ومن أشهر أفلامه ''سر طاقية الإخفاء''، ''ابن حميدو''، ''بورسعيد''، ''الشيماء''، ''على باب الوزير''، ''خلخال حبيبي''، ''سعد اليتيم''، ''الشيطان يعظ''، ''البحث عن فضيحة''. خارج الوسط تزوج "الدقن" من امرأة من خارج الوسط الفني، تدعى نوال الرخاوي وأنجب منها ثلاثة أولاد هما "ماضي" يعمل محاميا، و"هالة" تعمل مديرا عاما في الرقابة على المصنفات الفنية، و"فخر" يعمل في إحدى شركات الخليج في دبي، قال ابنه "ماضي" في أحد الحوارات الصحفية: "كان يهتم بنا، وكان يعطينا مساحة للتصرف والثقة بالنفس، وكان يعمل بجانب الفن، حتى يستطيع أن يقول "لا" أمام الأدوار ولا يستغله أحد، ولم يضربني مرة في حياتي". الرحيل رحل الفنان القدير توفيق الدقن عن عالمنا في 26 نوفمبر عام 1988، تاركا ذاكرة فنية كاملة لشرير السينما الظريف ذا الإفيهات الخالدة.