سعر الذهب اليوم السبت 4-5-2024 في مصر.. الآن عيار 21 بالمصنعية بعد الارتفاع الأخير    أخبار مصر: خبر سار للاقتصاد المصري، فرمان بنهاية شيكابالا في الزمالك، شيرين تثير الجدل بالكويت، أمريكا تطالب قطر بطرد حماس    بعد إعلان موعد فتح باب التقديم.. اعرف هتدفع كام للتصالح في مخالفات البناء    وانتصرت إرادة الطلبة، جامعات أمريكية تخضع لمطالب المحتجين الداعمين لفلسطين    حسين هريدي: نتنياهو ينتظر للانتخابات الأمريكية ويراهن على عودة ترامب    حزب الله يستهدف جنود الاحتلال الاسرائيلي داخل موقع بيّاض بليدا    روسيا ترد على اتهامات أمريكا بشأن تورط موسكو في هجمات إلكترونية ضد دول أوروبية    صلاح سليمان يعلن رحيله عن قناة النهار بسبب هجوم إبراهيم سعيد على شيكابالا    مفاجآت بالجملة في تشكيل الأهلي المتوقع أمام الجونة    حالة الطقس المتوقعة غدًا الأحد 5 مايو 2024 | إنفوجراف    نشرة المرأة والصحة : نصائح لتلوين البيض في شم النسيم بأمان.. هدى الإتربي تثير الجدل بسعر إطلالتها في شوارع بيروت    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    30 دقيقة تأخير في حركة قطارات «القاهرة - الإسكندرية» السبت 4 مايو 2024    اكتشاف جثة لطفل في مسكن مستأجر بشبرا الخيمة: تفاصيل القضية المروعة    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    المالية: الانتهاء من إعداد وثيقة السياسات الضريبية المقترحة لمصر    بعدما راسل "ناسا"، جزائري يهدي عروسه نجمة في السماء يثير ضجة كبيرة (فيديو)    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 4 مايو    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    بكام الفراخ البيضاء اليوم؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية السبت 4 مايو 2024    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    مصرع شاب في حادث اليم بطريق الربع دائري بالفيوم    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرانسوا باسيلى يكتب فى ذكرى رحيلها ال39: أم كلثوم.. سيدة الغناء الدينى
نشر في التحرير يوم 03 - 02 - 2014

استطاعت منذ صغرها بذكائها وحدْسها القروى الفطرى اكتشاف أن الفن الجميل لا يتعارض مع التدين الحقيقى.. بل هو امتداد طبيعى له
كانت تقوم بعمل ثلاثين أو أربعين بروفة كاملة للأغنية الجديدة.. وتقوم بتعديل الكلمات حتى لو أدى هذا إلى امتناع بعض المؤلفين
بدأت أم كلثوم رحلة إبداعها الفنى وهى طفلة فى قريتها «طماى» تنشد الأناشيد الدينية مع والدها وشقيقها فى مطلع العشرينيات من القرن العشرين
رحلت أم كلثوم فى الوقت المناسب قبل أن ترى المجتمع المصرى حولها يعود إلى عصور الظلمات ثقافيًّا وفنيًّا وإبداعيًّا
ديجول كتب لها: «لقد لمستِ بغنائك شِغافَ قلبى وقلوب الملايين من الفرنسيين»
عندما وقفت أم كلثوم عام 1951 تشدو بكلمات شاعر النيل حافظ إبراهيم «وقف الخلق ينظرون جميعًا/ كيف أبنى قواعد المجد وحدى» بلسان مصر التى تتحدث عن نفسها، كان يمكن اعتبار أن هذه السيدة المصرية المدهشة تتحدث هى الأخرى عن نفسها بهذه القصيدة الفريدة، فقد استطاعت أم كلثوم أن تجذب إليها الملايين فى المشرق العربى ومغربه ليقفوا ينظرون كيف بنت هذه الفنانة قواعد مجدها، فى تزامن مرهف مع فترة كانت فيها الشعوب العربية كلها فى مرحالتلة من أزهى مراحل بنائها لمجدها الوطنى، فى فترات التحرر من الاستعمارين الإنجليزى والفرنسى والتصاعد الهادر للحس الوطنى والمد القومى فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، ثم تصل أم كلثوم إلى ذروة مجدها الفنى فى فترة الستينيات المتأججة إبداعًا فنيًّا وإنجازًا وطنيًّا معًا، فى فترة مذهلة من تاريخ مصر والمنطقة، كان فيها مجد الألحان، والإبداع عامة، ينبع من مجد الأوطان ويغذيه فى نفس الوقت، فقد تلازم المجدان وتكاتفا ليصنعا معًا ملحمة المد الوطنى التقدمى ليس فى مصر فقط، ولكن فى البلاد العربية كلها، وكانت أم كلثوم هى أحد أهم التجسيدات الشخصية والتجليات الإبداعية للعبقرية المصرية فى تلك الفترة، فقد أترعت الوجدان الإنسانى وأشبعت الحس الوطنى بأرقى وأشجى المعانى الإنسانية والإبداعات الموسيقية التى حلقت بالروح الجمعية للمصريين والعرب إلى أعلى قممها، ثم كان من الملائم أن تكتمل رحلة أم كلثوم مع اكتمال انكسارات ثم إنجازات الفترة الشاهقة فترحل فى 3 فبراير عام 1975 بعد عام وقليل من آخر إنجاز مصرى وعربى فى ذلك القرن وهو انتصار العبور الهائل فى 1973.
احتفالنا بذكرى رحيل أم كلثوم يضىء لحظتنا المصيرية التى تعيشها مصر، لأن ما تمثله أم كلثوم فى الوجدان المصرى له علاقة وثيقة بالموجة الثانية من الثورة المصرية، وهى ثورة 30 يونيو ضد حكم الإخوان فى مصر، فأم كلثوم فى مجمل أعمالها تمثل عناق ثلاث طبائع أو منابع أساسية فى الوجدان المصرى هى الإبداع والوطنية والتدين، وهو مثلث مقدس لدى المصريين منذ فجر التاريخ، مثلث لم يفهمه أو يقدره أو يحترمه الإخوان الذين أرادوا كسر ضلعين من هذا المثلث، وهما ضلع الوطنية وضلع الإبداع، لكى لا يبقى سوى ضلع التدين الإخوانى المتشدد العنصرى، وليس التدين المصرى الوسطى المنفتح الجميل، فكان أن هب المصريون مطيحين بالإخوان دفاعًا عن طبيعتهم الأصيلة وهويتهم الأصلية.
ولم يكن غريبًا أن يكون تيار الغلو الدينى معاديًا للفنون ولأم كلثوم وما تمثله فى مصر، وقد سقط الشارع المصرى فريسة سهلة لهذا التيار منذ أن قام السادات فى السبعينيات بإطلاق قوى التشدد الدينى وشجعها على مطاردة الناصريين واليساريين والليبراليين ففعلوا بضراوة حتى خلت لهم الساحة السياسية والاجتماعية والفكرية معًا واستسلم لهم المجتمع المصرى بأكمله يشكلونه كما يشاء لهم فكرهم الضيق الكاره للحياة وتنوعاتها، وكان الهجوم على الفن والفنانين والغناء هو أحد الخطوط الأساسية التى اشتهر بها الداعية الإسلامى الشيخ عبد الحميد كشك، الذى قال عن الغناء: «ليس اعتراضى على الكلمة المغناة وحدها وإنما هو الاعتراض على الغناء من حيث المبدأ، فإذا ما أضيف إلى هذا خلاعة الكلمة أيضا كان الأمر شرًّا ووبالًا»، وقال الشيخ كشك تعليقًا على أغنية أم كلثوم البديعة «إنت عمرى» التى كتبها الشاعر أحمد شفيق كامل ولحّنها الموسيقار محمد عبد الوهاب: امرأة فى الثمانين من عمرها تقول: «خدنى لحنانك خدنى.. يا شيخة ربنا ياخدك»، وكان مثل هذا الهجوم المبتذل غير ممكن قبل غزو تيار الغلو الدينى واحتلاله للشارع المصرى بمباركة دولة السادات ومن بعده مبارك الذى استمر فى سياسة المزايدة على تيار التشدد الدينى والفشل فى مواجهته، ثم نجد أن هذا المناخ البائس يدفع مؤلف أغنية «إنت عمرى» نفسه إلى الوقوع فى حبائل فكر بدوى، غير مصرى بالتأكيد، يحرم الغناء، فنقرأ للأستاذ سعيد الشحات فى «اليوم السابع» حوارًا مع المؤلف أحمد شفيق كامل يدور كالتالى:
«لنتكلم عن تحولات أحمد شفيق كامل، إذ توقفت عن كتابة الأغانى..
هل لعلاقتك بالشيخ متولى الشعراوى سبب فى الاعتزال؟
- الشيخ الشعراوى منذ ظهر فى برنامج «نور على نور» الذى كان يقدمه الإذاعى أحمد فراج، وقد تعرفت عليه بعد ذلك بشهرين وأعرفه منذ ذلك الحين إلى أن توفاه الله ولم يكن يعرف أننى الذى كتبت الأغانى إياها التى تذاع، فلما عرف ذلك قال لى ما معناه: إنت غنيت للدنيا كتير ودى دار حنقعد فيها شوية وبعدين حتروح على هناك، سيبك من أغانى الحب واكتب للآخرة شوية فتوقفت عن كتابة الأغانى العاطفية.
لماذا؟ هل لأنها حرام؟
- هوه قال لى كده.
وهل رجل بثقافتك كان يحتاج إلى من يدلُّه على الحلال والحرام، الحلال بيِّن والحرام بيِّن؟
- وبينهما أمور متشتبهات، وهناك آية تقول «فاسألوا أهل الذكر» وكان الشعراوى أحد هؤلاء، وهو من العلماء الذين تجود بهم الحياة كل مئة سنة، وحين يقول لى خد بالك من نفسك يبقى لازم آخد بالى من نفسى.
يعنى لن تكتب أغنية عاطفية واحدة؟
- خالص وإذا كتبتها سأرميها أو أضعها فى الدرج».
وهكذا نرى كيف كان تيار الغلو الدينى الذى اختطف مصر منذ السبعينيات هو المسؤول عن الانحدار الفنى والثقافى والحضارى بشكل عام والذى عانت منه مصر وحتى اليوم، وهذا التيار يحارب الإبداع بكل أشكاله مثل الفكر والأدب والغناء والمسرح والسينما، محاولة اغتيال نجيب محفوظ نموذجًا، لأنه يعرف أن الإبداع يساعد على التحرر الفكرى والوجدانى وهم يريدون عبيدًا يستمعون إلى ما يلقونه عليهم من طروحات فقيرة فكريا وروحيا بلا مناقشة.
فى عهد الإخوان سواء وهم فى مجلس الشعب أو فى الرئاسة كان الهجوم على الفن والفنانين أكثر ضراوة وفجاجة، فرأينا أحد دعاتهم يتهم فنانة جهرًا بارتكاب الزنى، لأنها تمثل فى السينما فرفعت قضية ضده وكسبتها، كما رأى وزير الثقافة الإخوانى أن يمنع رقص الباليه من الأوبرا المصرية، ولهذا فباحتفالنا بقيمة وقمة كأم كلثوم فنحن نؤكد لفظنا للفكر الإخوانى البائس الذى أراد أن يطرد كل فن وكل فكر وكل إبداع من الوجدان المصرى، لكى يسهل حشوه بالهراء الإخوانى من فكر عنصرى متخلف.
أما من لا يدرك أهمية الفن والغناء بالذات فى حياة الشعوب فيكفى أن ندله على قول ابن خلدون واضع علم الاجتماع، إذ قال إن أول مظاهر انحدار حضارةٍ ما هو انحدار أغانيها!
وبهذا القول البديع حقًّا فلنقبل على أم كلثوم لنرى كيف جسدت بأعمالها المثلث المصرى المكون للشخصية المصرية الأصيلة وهو مثلث عناق الإبداع والتدين والوطنية.
التدين المنفتح
بدأت أم كلثوم رحلة إبداعها الفنى وهى طفلة فى قريتها طماى تنشد الأناشيد الدينية مع والدها وشقيقها فى مطلع العشرينيات من القرن العشرين، وفى تلك الفترة، وربما فى طيلة فترات التاريخ المصرى منذ مصر القديمة، لم يكن الوجدان المصرى يفصل فصلًا تعسفيًّا بين الإنشاد الدينى والإنشاد الإنسانى أو العاطفى بشكل عام، إذ كان التدين لدى المصريين دائمًا هو حالة وجودية قبل أن يكون فكرًا عقائديا معينا، ولذلك كان المصرى دائما متسامحا دينيا، وكنا فى مصر فى مرحلة صباى فى الخمسينيات والستينيات نسمع رجل الشارع البسيط يقول «موسى نبى وعيسى نبى ومحمد نبى وكل اللى ليه نبى يصلى عليه»، وكان هذا انعكاسا عبقريا لتفتح الذهن والوجدان المصرى ولمعايشته لفكرة التعددية حتى قبل أن تصبح فهمًا مدنيا شائعا فى الغرب، وقد نشأت أم كلثوم فى هذا المناخ الأرحب للفهم الدينى، ولم تخرج عنه بعد ذلك.
استطاعت أم كلثوم من صغرها وبذكائها وحدسها القروى الفطرى أن تكتشف أن الفن الجميل لا يتعارض مع التدين الحقيقى، بل هو امتداد طبيعى له، وأن الفن هو تعبير إبداعى عن أشواق الإنسان وحاجاته العاطفية والروحية، ولذلك لم تستسلم للمفهوم المنغلق للتدين، فما إن وسعت مداركها الذهنية حتى استوعبت إمكانية تَعانُق الفن مع أشواق الروح الإنسانية السامية فتحررت من أغلال المفاهيم الضيقة للتدين التى يروجها المتشددون المتزمتون فقراء الروح الذين يطاردون الجمال فى كل أشكاله.. فراحت تقدم أغنيات راقية تعتمد الكلمة الشاعرية المرهفة واللحن المعبر المبدع والأداء الصادق الصارم دون خلاعة أو ابتذال.
واستطاعت أم كلثوم بهذا أن تفرض على مجتمعها الذى كان متزمتًا مفهومًا أوسع وأجمل وأكثر إنسانية وروحانية للتدين. وكانت حياتها الخاصة والعامة وسلوكها الشخصى تؤكد هذا بشكل واضح. فلم يستطع أحد من المتزمتين فى حياتها أن يرفع صوته قائلًا إن الفن حرام، كما راح يقول البعض منذ رحيل أم كلثوم، حيث اضطرت بعض المطربات والممثلات إلى اعتزال الفن أمام هذه الدعاوى المنغلقة ضد الفن والفنانين.
لقد رحلت أم كلثوم فى الوقت المناسب قبل أن ترى المجتمع المصرى حولها يعود القهقرى إلى عصور الظلمات ثقافيا وفنيا وإبداعيا واجتماعيا.
إن هذا الحل الفردى الذى قدمته أم كلثوم لعلاقة الفن بالتدين والنموذج الذى فضت به هذه الإشكالية المفتعلة يصلح لأن يكون النموذج المطلوب اليوم لبناء نهضة ثقافية قوية، فلا نهضة لمجتمع يحارب الإبداع أو يضعه فى ركن معتم، كما هو الحال اليوم مع الدروشة الدينية السائدة التى لا تعرف من التدين الحقيقى سوى مظاهره الميكانيكية دون روحه الإنسانية الخلاقة المبدعة المحررة لطاقات الناس والأمة.
وبالطبع قدمت أم كلثوم عديدًا من الأغانى الدينية إلى جانب تقديمها للأغانى العاطفية فلم تمنعها هذه عن تقديم تلك، ومن أهمها أغانى رابعة العدوية بالغة الجمال، كما قدمت إحدى أجمل الأغانى الدينية على الإطلاق من كلمات بيرم التونسى وألحان رياض السنباطى، وهى «القلب يعشق كل جميل».
الوطنية المتوهجة
إذا أردنا مثالا واحدًا لمدى ما قدمت أم كلثوم لوطنها مصر فلنذكر أنه يكفيها أن أحد أناشيدها الوطنية، وهو «والله زمان يا سلاحى» كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، اختير ليكون هو السلام الجمهورى لمصر، ولا يقلل من قيمة هذا أن السلام حاليا هو لحن «بلادى بلادى» للعملاق سيد درويش، ولكن كان نشيد «والله زمان يا سلاحى» من الصيحات الأعلى دويًّا على لسان الجميع عند انطلاقه فى معمعة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956. كما أن لأم كلثوم عددًا آخر من الأناشيد الوطنية الحميمة التى زكّت بها الروح الوطنية للمصريين فى كل مراحل نضالهم طوال الفترة الناصرية بالذات، ولم تكن وطنية أم كلثوم منغلقة متعصبة فقد كان العهد الناصرى عهد انفتاح على العالم لتأسيس حركة عدم الانحياز وحركة الدول الإفريقية الآسيوية والتحالف مع جميع حركات التحرر فى العالم، وبعد الهزيمة العسكرية فى 67 أصرت أم كلثوم على عدم إلغاء حفلاتها بفرنسا فقامت بها فعلًا، كما زارت عددًا من الدول العربية تغنى فيها لصالح المجهود الحربى فمنحها عبد الناصر جوازًا دبلوماسيًّا باعتبارها سفيرة على أعلى مستوى، وكان هذا تأكيدًا لواقع حى كانت تستقبلها الدول فيه كما يستقبل الملوك والرؤساء، وهى مكانة لم يعرفها مطرب أو مطربة عربية أو أجنبية أخرى فى تاريخ الفن.
الإبداع المحلق
إذا أردنا قياس مكانة أم كلثوم الفنية التى صنعها إبداعها الفريد فما علينا سوى الخروج خارج مصر لكى نرى كيف اعترف العالم بهذه الظاهرة الفنية الفذة، فقد وصلت أم كلثوم إلى مكانة الرؤساء والملوك.. فهكذا كان يتم استقبالها من الدول العربية والغربية التى زارتها بعد أن أصبح لقبها الذى منحته لها جماهير المستمتعين بفنها «كوكب الشرق»، حتى إن الرئيس الفرنسى شارل ديجول أحد عمالقة العالم فى القرن العشرين كتب لها قائلا وهى تغادر فرنسا بعد غنائها بها «لقد لمست بغنائك شغاف قلبى وقلوب الملايين من الفرنسيين»، وقد صارت أم كلثوم معروفة بدرجة كافية على مستوى العالم، حتى إنه فى عام 2000 أظهر استطلاع للرأى فى أوروبا أن الأوروبيين يعتبرونها واحدة من أهم مئة شخصية ظهرت فى العالم فى القرن العشرين.
لم تحقق أم كلثوم تميزها الفنى وقيمتها الإبداعية الشاهقة صدفة ولكن نتيجة لاعتناق مبادئ وخصال محددة فى علاقتها بما تقدمه من إبداع وبأسلوب هذا التقديم، فقد كانت تهتم بإتقان عملها وتقديمه على أفضل درجة، مما كان يتمثل فى حرصها الفائق على مواعيدها ووقتها فى مجتمع ليس للوقت والمواعيد فيه أى احترام إلى يومنا هذا. فكانت لا تسمح بتأخر المؤلفين أو الملحنين عن موعد البروفات ولو لدقائق قليلة حتى وقعت مشكلات مع الشيخ سيد مكاوى الذى كان شهيرًا بعدم قدرته على الوصول فى الموعد مثله مثل معظم المصريين بسبب الثقافة السائدة، وظهر اهتمامها بالعمل أيضا فى إصرارها على القيام بعدد ضخم من البروفات لكل أغنية والسهر لساعات طوال حتى يصل العمل إلى حد الاكتمال الإبداعى، وكانت كثيرًا ما تقوم بعمل ثلاثين أو أربعين بروفة كاملة للأغنية الجديدة، كما كانت تختار كلمات أغنياتها بعناية فائقة وتقوم بتعديل الكلمات حتى لو أدى هذا إلى امتناع بعض المؤلفين عن تقديم أعمالهم لها، وكذلك لم تكن تتعامل إلا مع كبار الملحنين القادرين على منحها أعلى ما وصلته عبقرية الخلق الموسيقى فى مصر فى زمانها، فغنت من ألحان زكريا أحمد والقصبجى والسنباطى والشريف والطويل وعبد الوهاب وبليغ والموجى ومكاوى. وكانت قادرة على تحفيز هؤلاء العمالقة لكى يقدم كل منهم لها أفضل ما تستطيع قريحته الإبداعية، فكانت النتيجة هى ثروة هائلة من الأعمال الإبداعية الشاهقة مستحيلة التكرار، حتى إننا نرى مطربات الأجيال التالية لها عندما يريدون تقديم حفلة غنائية مميزة لا يجدون سوى أغنيات أم كلثوم التى قدمتها فى الخمسينيات والستينيات يقدمونها لجمهور اليوم فيهتز لها طربًا كما فعل الجيل السابق له.
إن الشعب المصرى الذى أنبت أم كلثوم واحتضنها واستمتع بإبداعها وما زال، إلى ما يقرب من القرن، سواء فى حياتها أو بعد رحيلها فى الثالث من فبراير عام 1975 لَقادرٌ على صنع المناخ الحضارى والثقافى اللازم لظهور أم كلثوم جديدة عصرية، إذا ما استوعبنا أسرار هذه الظاهرة الإبداعية الفذة التى جسدت العبقرية المصرية بأضلاعها الثلاثة، الإبداع الخلاق، والوطنية المتوهجة، والتدين المنفتح المستنير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.