سبعة سيدخلون الجنة، أولهم يوسف إدريس لأنه يوسف إدريس، وسابعهم بهاء طاهر لأنه نقى وبهى وطاهر، وفى المنتصف يقف محمد مستجاب والذى سيدخلها لأنه أبى، ثم الخامس والسادس الراحلان خيرى شلبى وإبراهيم إصلان، يسبقهم علاء الديب: لأنه حنون وطيب وبشوش وابن ناس طيبين ولأن اسمه علاء الدين حب الله الديب. لكن الحياة لا تكتفى بأن تكون ابن ناس طيبين، يجب أن تثبت ذلك، لذا فإن علاء الديب، ابن المعادى ومصر القديمة، المتجول فى أحياء البساتين وصقر قريش وطرة البلد حتى حلوان، والذى خاض الحياة بالطول والعرض، عمل وتغرب فى وطنه، ثم سافر وتغرب فى غربته، وبين الغربتين، ظل صامتا كما عهدناه، لكنه فى أثناء عمله وسفره وغربته واغترابه وحزنه ووحدته، يظل فى يده قلم كلماته كالمرزبة تطيح وتطير العقل، وفى عقله أفكار مخروطة ومسبوكة كقطع الألماس لو طبقت لأصبح ذلك الوطن من الأوطان العظمية، وفى قلبه أحلام قديمة لم تتحقق، أحلام تناغشه وتراوده كما تراودنا جميعا -نحن الكتّاب والمثقفين- حلم قديم يتحقق ببطء لذا أصبح ملكا من ملوك الكتابة. علاء الديب: المهموم والمصلوب على ورقة بيضاء، مفرود ظهره على جذع قلم يكتب العسل المر، فهو الإنسان والفنان والمترجم والمتابع والشائك والمشتبك والمسافر والمغضوب عليه وجابر خاطر آلاف من الكتّاب المصريين والعرب، المهموم كجدتى، والمبتهِل كأمى، والصادق كأطفالنا، والحاد كأبى، والحنون كرضوان الواقف على أبواب الجنة. هكذا يعيش بيننا علاء الديب، يعيش دون أن نشعر به، يراقبنا ويحللنا ويفتتنا ونتحول إلى كلمات فى مقالاته ورواياته وكتبه، ومع أنه يتنفس نفس الهواء الخانق ويأكل نفس الأكل المسمم ويشرب نفس الماء الملوث، ألا أنه يترك كل هذا ويكتب، يكتب وهو يكاد عقله يجن، وذهنه يشت، لكنه مؤمن ومتمسك بأمل ضعيف واهن، وهو أن هذا الوطن يستحق أكثر وأكثر من أبنائه ولأبنائه. علاء الديب الذى يحلو لنا كل فترة زمنية أن نحاصره، من الداخل ومن الخارج، نضيق عليه المسارب والمداخل ونحاول أن نخنقه لعله يموت ونستريح، لكنه يعود، لا يشهر قلمه فى وجه من هاجموه، ولا تضغط عليهم كلماته فيموتون بين سطوره، لأن قلبه كبير وعقله متسع وصدره لا يستطيع فأر أن يعبث به، لذا يعود بعد ما نفعله به، بنفس هدوئه وبنفس قلمه وسمرته المصرية وذقنه البيضاء وسيجارته الغلبانة ودخانها الكثيف ويكتب، يكتب وهو مرتدى ثوب علماء علم النفس، يشرَّح ما يحدث فى عقليه أبناء هذا الوطن، قامت ثورة وحلم بها، لكنه شاهدها وهى تسرق وتضيع وتنهزم، شعر بالموت وأعلن الحداد والموت نهائيا فى نكسة 67، شعر أن الوطن يتغير فلا الصباح صباح ولا الليل ليل، الكل يتقافز والكل يطنطن والكل يهبش ويحلب من البقرة، ومن الأحلام والكل يتطاول، وهو هادئ، لا يثير معارك، مرفأه كلمة توقظ العقل وطعامه اليومى جملة تسد جوع البطن، طريقه مفروش بالروايات التى قرأها فعلمنا منه أن هذا الوطن ملىء بالموهبين، لذا يظل مقاله «عصير الكتب» من أشهر المقالات التى عرفتنا بالكثيرين من كتابنا العظام، ولكنه لم يكن يرتدى قفاز ناقد متحذلق ومتقعر بالكلمات والمصطحات، لكنه يتعامل معك بالزائقة، يبين لك جواهر الروايات، ويهديك عقودا من زبرجد القصص القصيرة، ينبهك أن الكتاب الفلانى يستحق أن يُقرأ وأن الكتاب الآخر لم تختمر عجينة كلماته بعد، يجذبك من أذنك ويقول لك انصت ما بتلك الكلمات من حس موسيقى دافئ، وسلاسة وشعرية موسيقية، وأن هذه المجموعة القصصية أو الديوان الشعرى يجب أن تحتفظ به فى مكتبتك. علاء الديب، لم أرَه ولم أقابله، لكننى أشم رائحة سنوات من المرارة والحزن فى كلماته، ريقه الناشف باستمرار غضبا مما يحدث، وتصبح المصيبة مصيبتين عنده، لأنه عاش ثورتين، ثورة شاهدها وهو طفل صغير وتذوق حلمها وأمسك به ثم تم سرقتها وهزيمة بدنها، وها هو ينبهنا بكلماته منذ خمسين عاما، نحن الذين نعيش ثورة يناير، الثورة تحلم بكم، وسوف تسرق منكم، من منا سوف يصبح علاء الديب مرة أخرى، من منا سوف يكتب كلمات حادة كى نفيق الآن، كى نتّحد، وكى لا تسرق أحلام ثورتنا الوليدة. انظر له وهو يميل برأسه على كف يده الذى تحمل سلاحه، قلمه، وابتسامة عذبة على شفتيه، ابتسامة الهدوء الأبدى، وابتسامة المرار الذى نحيا فيه، منذ سنوات بعيدة ينبهنا علاء الديب أن نقف لحظات قبل المنحدر، بعد أن ارتطمنا بالأرض وتبعثر الوطن، لكننا نهضنا بثورة أدهشت العالم، فهل تتكرر مأساة علاء الديب معنا. ولأن علاء الديب مثقف حقيقى ومن نوع خاص، فهو يعلم مقدار التخلف والقبح الذى أصبحنا عليه، ولأنه ليس مزيفا، لا يريد أن يجمل الكلمات أو أن يضحك علينا، حيث يسير علاء الديب بمثل «يابخت من بكانى وبكّى عليه ولا ضحكنى وضحّك الناس عليه»، فمن المؤلم حقًّا أن تكون مثقفًا فى بلد يكره العلم والثقافة ويطرد النابهين من أبنائه ولا يأبه بوجودهم، فهكذا علاء الديب، ذلك المثقف الذى قرأ وعايش التجارب الحية، الذى أدرك حجم المآسى التى يعيش فيها، وأدرك إلى أى مدى عمق الطين والوحل الذى يسير فيه، لكنه وسط كل هذا الوحل والعفن يبحث عن المعانى الحقيقة الواضحة التى تجعله عاليا يطاول نجوم السماء، ويأتى بقمر جديد غارق برائحة زهر الليمون، وشمس تحمل أياما وردية، وتمر أيامها على أطفال بلا دموع، وبذلك تصبح سطوره ممتدة على نول الوطن، بخيوط مشدودة، يصنع منها ثوبا من نسمات الهواء وأشعة الضوء كى يصير ثوبا حقيقيا نتدثر به من برد طوبة وجنون أمشير ورعونة بؤونة، فيصبح لنا ثوب مصرى مغزول بيد مصرية ومن خيوط مصرية ولجسد مصرى، وكُتب على هذا الثوب: يجب أن نبكى من أجل كل شىء، ولكن.. ليكن بكاؤنا جيدا، نبكى من الأنف ومن الرُكب، نبكى من خلال السرة.. ومن الفم، هكذا نعيش بكلمات تجعلك تفكر، تخربش عقلك، تجرح قلبك، تعبث فى صدرك، تقلقك فى مشيتك وسعيك فى طريق الحياة. إن علاء الديب لا يردم على ما يمر أمامه، أو يبكى ويلطم الخدود على ما يشاهده ويلمسه، فمثلا كتابه «وقفة قبل المنحدر» ليس مذكراته الخاصة، بل هو مذكرات وطن ومثقفيه، مذكرات تهزك بعنف، كاشفة، حادة، دون ضجيج ودون صراخ، فقط مذكرات بها كشف حساب لوطن سرق أمام أهله، ورواياته صخور عملاقة، مابين السيرة الذاتية والبوح والفضفضة، صخور من الحقائق والأحاسيس والكائنات، يروى فيها معاناته وأفكاره، صخور ترثى الوطن والأحلام العظيمة والعمر المسلوب. علاء الديب المتلبس كل المثقفين المهزومين والذى حمل على عاتقه تقدم بلاده وعلو وطنه، لكن الحمل ضغط عليه وكاد يخنقه ويقتله أيضا، بلغته السلسلة الناعمة والجارحة والحادة واللينة والصادقة، الغارقة فى كآبة كابية، لكنها حقيقية، فلا نحزن أو نغضب منها، فعندما كتب سيرته الذاتية، هذا الفن المراوغ، أبدع فيها لأنه كتب سيرتنا نحن المصريين. لذا فإن كتبه صادمة لكنها صادقة، جارحة لكنها تعالج وتشفى، مقلقة لكنها تجعلك فائقا ومستيقظا ومنتنبها لكل ما يدرو حولك، تضعك فى بؤرة الوطن والأحداث، ليصبح قلبك وعقلك خلية نحل لا تهدأ ولا تستكين، هكذا هى كتاباته وكلماته المؤرقة، قاسية قسوة الزمن وحادة حدة الأيام وقاتلة بقوة الجهل والتخلف الذى نعيشه. وإذا رأيت ما بين السطور وفواصل الكلمات ستعلم أنه يخفى أكثر مما كتب، كلماته حزينة جدا، ومؤلمة جدا، وحادة وجارحة جدا، يكره التخلف ويعتبره أهم عدو له، يراه أخطبوطا هائلا بألف ذراع كلما قطع ذراع ظهر مئة، هذا التخلف الذى يقابله فى كل لحظات حياته وفى كل الأماكن التى يتحرك فيها، لكن هذه المواجهة لم تجعله ينفر ويكره الوطن، بل جعلته منتميا ومحبا وحالما ومتمسكا بتراب هذا الوطن مهما حدث ومهما تضخم هذا الأخطبوط ومهما تطاولت وكثرت أذرعه. ورغم أن معظم كتابات علاء الديب بها كمية كبيرة من اليأس، والجراح، والصديد، لكن عندما تنتهى منها تشعر بشىء غريب، تشعر أن هذا الهادئ قد كتب ما تحب أن تكتبه أو تقوله أو تقرأه، دون الدخول فى معارك مع اللغة ودون أن يطنطن بكلمات مكررة، إنه فاهم ومدرك لكل ما يحدث حولنا، وتلك هى الميزة والكارثة، فكتاباته كتابة الحزن والوحدة، يكتب عن حال مصر الأبدى الذى لا يتغير، فيكفى أن نقرأ له هذا المقطع: أرى شرخ الزجاج الذى بدأ دقيقا ثم اتسع، الشرخ الذى لا يرتّق ولا يُجبر، أراه وهو يتكون فى نفسى، بذلك الإحساس المرهف العالى، يسير بيننا ويحيا عمنا الكبير علاء الديب والذى أتمنى -نحن عيال هذا اليوم- أن نقيم له مأدبة ووليمة كبرى، احتفاءً به، وبكلماته، وبأنفاسه التى ترثينا وترثى وطننا المصرى الجميل، وتجعلنا -نحن- نبكى حبا له وفيه.