«1» الشهر وراء الشهر مروا، حتى أتموا أربعة وزيادة، ومازال أحمد ناجي محبوسا لأن قضاء مسجونا داخل قفص خيالاته عن الأخلاق والأدب رآى فيها خدشا لما اصطلحوا على تسميته "حياء عاما". خبت نار التأييد والدعم في شهرها الأول، وبدأ اسمه يختفي من الصحف والمواقع والمجلات شيئا فشيئا، إلا من خبر عابر هنا، وتقرير صغير هناك. لم يبق من كل ذلك إلا مرارة حبسه عند أهله وأصدقائه، هؤلاء الذين يخوضون معركة عبثية مع عدو لا يرى حتى نفسه، لا يرى إلا صورة متداعية قديمة عن انضباط مشهدي لأخلاق هم أنفسهم لا يقدرون على تعريفها وترسيم حدودها، فقط يفرضون سلطة لشيء لا يفهمونه، ولا يبدو أنهم سيفهمونه. «2» أحمد ناجي اليوم محبوس وراء جدران طرة، ومحبوس أيضا داخل خيالات الأخلاقيين ومجازات الداعمين الرديئة. حتى تكاد تكون كل حملات التضامن معه تمثل كل ما يكرهه ويعاديه ناجي من جماليات بالية وفضاء مستهلك قضى عمرا في تفكيكه وتقويضه والسخرية منه. «3» يقدم الاستعراض نفسه بوصفه أمرا إيجابيا هائلا لا يقبل الجدل ولا يمكن بلوغه، إنه لا يقول سوى أن "ما يتبدى جيد، وما هو جيد يتبدى". والموقف الذي يتطلبه من البداية هو هذا القبول السلبي الذي أحرزه فعلا بواسطة طريقته في التبدي دون جواب بوساطة احتكاره للتبدي. جي ديبور - مجتمع الاستعراض «4» في عام 1962 تقدم كاتب ألماني مجهول بشكوى يتهم فيها جونتر جراس بنشر مؤلفات إباحية، وهو ما كان يعاقب عليه القانون الألماني آنذاك. قال الشاكي إنه قرأ رواية "قط وفأر" ووجد فيها "قذارات لن يجرؤ أحد على كتابتها على حائط مرحاض". غير أن النيابة، الواعية المتبصرة، رفضت الدعوى، وقالت في حيثياتها: هناك فقرات يمكن أن توصف بالإباحية إذا نظرنا اليها بمفردها، ولكنها في سياق العمل الفني ليست إباحية، والمعيار في الحكم ليس ذوق القارئ العادي، بل قارئ الأدب والناقد المتخصص. «5» سنة 1959، تعرض وليم بوروز (أحد أهم الأدباء في جيل البيت الأمريكي) للمحاكمة بدعوى الفحش، لا بسبب رواية كاملة، لكن بسبب فصل منشور منها في مجلة أدبية هيمن عليها جيل البيت، المجلة تدعى "المائدة الكبيرة".. وقتها أصدر القاضي حكما بمصادرة المجلة بنفس المنطق والأسباب التي حبست أحمد ناجي، لدرجة أن محامي هيئة البريد المتضررة من الفصل المنشور، تكلم عن مشكلة "المخدرات" في "الغداء العاري" واعتبر أنها لا تصدر إلا عن مدمن! بعد الضجة التي أثارتها المجلة ومصلحة البريد بالخصومة بينهما في المحاكم، بسبب الفصلين المنشورين من الرواية، وصدور حكم ينفي البذاءة، طبعت الرواية أخيرا بعد الحكم بثلاث سنوات، عام 1962 في دار نشر "جروف بريس". لكنها واجهت مدينة محافظة هي بوسطن ذات القوانين المقيدة لحرية التعبير، حتى حسم "المحافظون" قرارهم برفع دعوى جديدة ضد الرواية هذه المرة لا فصولها المنشورة في مجلة. ليمثَل بوروز أمام المحكمة مع ناشره، عام 1965 للبت في بذاءة الرواية من عدمها، باستدعاء شهود نفي وإثبات، فكان شهود النفي هم الأدباء آلن جينسبرج (الشاعر صاحب "عواء" والذي رفعت عليه قضية عام 1959 لنفس السبب) ونورمان ميلر. وجون كياردي. بعد الاستماع إلى الشهود ومرافعات المحامين، أصدر القاضي حامي الأخلاق حكمه، بمنع الرواية تماما، وقال إن المؤلف قام بجمع أقذر وأوسخ عبارات تصف المواقعة الجنسية ثم نثرها دون تمييز في كتابه. لكن حكم القاضي لم يمر مرور الكرام، حيث كانت ردود الأفعال الواسعة الغاضبة بين الكتاب والمثقفين أكبر من مجرد التعليق على الحكم المحافظ. وكانت نتيجة تحركات النخبة أن كان هذا الحكم هو الأخير من نوعه في المحاكم الأمريكية، واستطاعت التحركات الواسعة في الولاياتالمتحدةالأمريكية كلها -لا في بوسطن وحدها- بتغيير قوانين البذاءة، وفتح المجال لحرية التعبير "الكاملة" دون رقابة أخلاقية من أي جهة أو مؤسسة تحت أي اعتبار أو مسمى. «7» اللمسة المصرية الدولتية، لم تأت بمنع الرواية أو مصادرة "أخبار الأدب"، بل ارتأت أن تصادر الكاتب نفسه وحكمت عليه بالحبس لمدة عامين، في واقعة هي الأولى من نوعها في تاريخ مصر. تحركت النخبة الأمريكية وغيرت قوانين. التحرك المطلوب اليوم للإفراج عن كاتب يقضي شهورا -قد تمتد لسنين وهو الأمر المرهون بمحكمة النقض- في السجن. لا نملك ترف الآمال الأمريكية مع دولة الجنون هذه، كل ما في الأمر: أفرجوا عن أحمد ناجي. لا تنسوا أحمد ناجي في محبسه.