لا أحد بالتأكيد يقف ضد أن تتقدم الدولة خطوات واسعة للأمام، سواء فيما يتعلق بمشروعات قومية، أو بتطور التسليح، أو في جذب استثمارات، أو في غيره.. وهذا يشمل حتى المعارضين للسلطة الذين ينتمون للمعارضة الوطنية، والذين يدركون الفارق الشاسع بين الدولة التي تشملهم مع السلطة ومع المجتمع ومع الشعب ومع الأرض، وبين السلطة التي يجرى أحيانًا من السلطة نفسها اختزال الدولة فيها. (1) نقترب الآن من انتصاف المدة الرئاسية الأولى للرئيس عبد الفتاح السيسي، ومع حلول نهاية الشهر الحالي، سيكون قد مر عامان بالتمام والكمال على انتخابه رئيسًا بأغلبية كاسحة، وفقا للأرقام الرسمية التي أعلنت للانتخابات الرئاسية الماضية، وبغض النظر عن دقتها من عدمه، وعن الأجواء التي جرت فيها، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن الرجل جاء في لحظة شعبية جارفة لصالحه تراه منقذا وبطلا مخلصا، وحتى من يختلفون معه فلا يمكن لهم إنكار دور رئيسى – لكنه بالتأكيد ليس وحيدا – فى حسم الموقف من حكم الإخوان، وبغض النظر عن الأسباب والدوافع والتفاصيل، فما يهمنا هو المآلات، فقد دخلت مصر فيما بعد 30 يونيو مرحلة خطيرة وحاسمة، كان ممكنا فيها أن توضع مصر على طريق تأسيس دولة جديدة فعلا، لا للعودة للصيغ القديمة، ورغم كل الملاحظات على الدستور وبعض مواده، إلا أنه أيضا جاء ليؤسس بشكل كبير لنقلة حقيقية على صعيد الحقوق والحريات.. لكن ما جرى فى الواقع كان مختلفا وبعيدا إلى حد كبير، فقد تحول الدستور إلى حبر على ورق، وأعلن الرئيس نفسه فى وقت سابق أنه يبدو دستورا طموحا للغاية ويحتاج إلى وقت لتطبيقه، وهو ما اعتبر وقتها إيذانا بالتمهيد لحملة لاحقة لتعديلات جوهرية فى نصوصه، ثم أن حالة الانقسام المجتمعى التى كانت وليدة ما جرى بعد يناير ثم تفاقمت مع حكم الإخوان، استمرت وتواصلت ولم تنجح السلطة لا فى وقفها واحتوائها بل وأدت سياساتها للمزيد منها فى الحقيقة، وبالذات فى الآونة الأخيرة بدا ذلك أكثر وضوحا، خاصة بعد ما جرى على خلفية قضية جزيرتى تيران وصنافير. (2) الدستور كعقد ملزم ، والتوافق المجتمعى كممارسة ، جرى تجاوزهما عمليا وإنتهاكهما فى الكثير من القضايا والملفات ، وبالتالى صار طبيعيا للغاية أن نشهد كل ما نراه من تجاوزات وانتهاكات فى ملف الحريات وحقوق الإنسان، والقصور والعجز فى ملفات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وصدور تشريعات محل خلاف وجدل وطعون حتى وإن تم إقرارها لاحقا من مجلس النواب الذى جاء هو نفسه وفقا لقوانين وبتشكيل وتركيبة تعبر عن سلبيات المرحلة وتوازناتها ومعاييرها. ومن هنا عادت معادلة مزدوجة لدى السلطة فى محاولة إقناع المواطنين، وترهيب المعارضين، ملخصها أنه الحريات والحقوق السياسية والمدنية مؤجلة لأن الديمقراطية عملية طويلة تحتاج لزمن ووقت، فى مقابل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية .. ومن ناحية أخرى فان الجانب الثانى لهذه المعادلة هى أن الاصطفاف والدعم والمساندة والتأييد فى مواجهة المخاطر والتحديات والمؤامرات والإرهاب والتطرف ضرورة وواجب وطنى، ومن يخرج عنه إما يصبح خائنا أو ممولا أو حليفا للإخوان ، وفى الحد الأدنى لا يعرف الواقع ولا يدرك الحقائق! ظلت هذه المعادلة بالفعل مسيطرة لفترة طويلة، رغم كل ما جرى ويجرى، لكنها لم تستطع الصمود لأكثر من ذلك، ليس فقط بسبب القمع والانتهاكات، التى أخذت فى التزايد لتطول من هم غير المتطرفين والإرهابيين؛ ولتصبح منهجا لا مجرد أداء عشوائى، ولتصل إلى من كانوا حلفاء أو مقربين حتى شهور قليلة ماضية، وإنما لأن حتى ما وعد به الشعب والمجتمع من مقابل لهذا المنهج القمعى لم تتبدى له ملامح ولم تظهر له آثارا، حتى وإن لم ننكر أن مجهودا كبيرا يحث بالفعل، وحتى وإن كنا ندرك أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لها أبعاد وعوامل متعددة ليست السلطة وحدها المسئولة عن استمرارها، لكنها بالتأكيد مسئولة عن السياسات التى تعمقها. (3) كان واضحا على مدار الشهور الماضية، أن هناك ملامح لحراك ديمقراطى سياسى واجتماعى يتشكل، فقطاعات شبابية عديدة تتململ وتعرب عن غضبها من التضييق الواسع على الحريات، وقطاعات صحفية وإعلامية بدأت تخرج عن النسق المرسوم منذ ما بعد 30 يونيو، وقطاعات نقابية بدأت تشكو وترفع صوتها فى مواجهة تجاوزات الداخلية، وقطاعات حقوقية بدأت ترفض ما يجرى معها ومع غيرها من تلفيق واتهامات ومن شيوع المظالم، ثم قطاعات مجتمعية واسعة بدأت تئن من الغلاء وارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.. لم تدرك السلطة أن الحل قد يكون فى أن تستمع لغيرها، فهى تتصور أنها وحدها من يعرف الحقائق ومن يدرك التحديات ومن لديها الحلول، وهى تتصور أن ما جرى فى يناير لا يجب ولا يمكن أن يتكرر رغم اعترافات علنية سابقة بأنه كان ضروريا بل ومتأخرا، وبالتالى فهى بدلا من الاستجابة لأصوات متنوعة ومتعددة ومختلفة، وبدلا من الحوار معها وإتاحة المساحات لها والاستجابة لما تقوله، فضلت أن توغل أكثر فأكثر فى فرض قبضتها الحديدية على الكل، وأن تهدد وتلوح باستخدام القانون ضد المخالفين، لا للقانون بل للسلطة، وهو ما بدأ وجرى بالفعل بصورة موسعة وواضحة منذ تفجر أزمة قضية الجزر، ولم يكن متصورا أن يتوقف عند حدود قطاعات شبابية معارضة قد يصمت المجتمع عما يجرى معها حتى لو لم يكن راضيا، بحثا عن الاستقرار الزائف والهدوء على السطح الذى يخفى تحته انفجارًا مقلقًا، لكنه لم يتوقف عند حدود هؤلاء الشباب الذى يمكن وصفه من البعض بالزاعق أو قليل الخبرة أو حتى المتجاوز، لكنه وصل الآن لنقيب الصحفيين وأعضاء فى مجلس النقابة المنتخب، وهو أيضا لن يتوقف عندهم فى الحقيقة، بل سيمتد ليطول كل صاحب رأى مختلف أو موقف معارض ، طالما كان يساهم عمدا أو بدون فى تشكل مساحات وهوامش للحرية وفى تكتل قوى ديمقراطية وفى استعادة مساحات للتعبير والاختلاف والمعارضة. هذه كرة ثلج تخشى السلطة أن تكبر وتتزايد خاصة أن كل الظروف تبدو مهيئة لها . (4) نعم بذلت وتبذل جهود كبيرة للغاية فى مجالات انشاء وتأسيس مشروعات جديدة ، ونعم بذلت وتبذل جهود كبيرة فى تطوير البنية التحتية ، نعم تبذل وبذلت طاقات حقيقية فى محاولات تحسين الوضع الاقتصادى .. لكن هناك نقطتين جوهريتين محل خلل ، الأولى هى الأولويات ، فهناك خلاف جاد وحقيقى حول أولوية بذل الجهد وفى أى اتجاه ولأى مصالح استفادة من أية قطاعات .. وهو أمر فى ذاته يحتاج لحوار واستماع لآراء مخلفة من خبراء ومتخصصين ، وهو ما لا يجرى وإن جرى فإنه يكون شكليا للغاية ودون استجابات حقيقية .. أما الثانية ، فهى أن كل ما يجرى وسيجرى فى هذا السياق إن لم يكن محكوما برؤية واضحة تشمل ما هو سياسى وما هو إجتماعى وما هو إقتصادى وما هو وطنى ، فإنه لن يقدمنا خطوة واحدة للأمام بكل أسف .. طبعا على الهامش ، فهناك التهويل المبالغ فيه والمقصود والعمدى لإكتساب شرعية الإنجاز فى مواجهة إخفاقات عديدة أخرى ، ولكن حتى نتائج ذلك الإنجاز وبغض النظر عن الإختلاف حول حجمه وقدره وتأثيره ، لا تبدو محسوسة ولا ملموسة ، لا بسبب سوء تسويق الإنجازات ، ولا بسبب مؤامرات أهل الشر ، وإنما بسبب غياب الرؤية السياسية والإنحياز الإجتماعى الواضح ، الذى يجعل أى ثمار تصب فى صالح الأكثر احتياجا ، بل وفى الحقيقة فإن مجمل السياسات الإقتصادية والإجتماعية لم تختلف كثيرا فى جوهرها عما كان قائما من قبل ووصل بمصر وشعبها لما هى فيه ، بل هى كذلك أكثر سرعة وحسما فى إتخاذ إجراءات سبق لرئيس الوزراء نفسه أن وصفها بأنها (مؤلمة) ، لكن عوائد هذا الألم والمعاناة تطول هؤلاء الذين ظلوا يعانون ويتألمون على مدار السنوات بل والعقود الماضية . كان كثيرون يتصورون أن (غياب) الرؤية هو الأزمة ، لكن نعتقد أنه اتضح فى الشهور الأخيرة أن (فشل) الرؤية التى تتبناها السلطة هو جوهر الأزمة ، فمعادلات الأمن مقابل الحرية والإستقرار مقابل القمع والحقوق الاقتصادية والاجتماعية مقابل الحريات السياسية والمدنية ، هى معادلات ثبت بالتاريخ وبالواقع وبالمستقبل فشلها ، ومع ذلك فلا زلنا أمام نفس المنهج فى التفكير ونفس التمسك بالخيارات .