لا يبدو الاستقرار البادى على السطح فى مصر حقيقيًّا أو مطمئنًا، فما فى جوف البلاد والعباد يبدو كبيرًا وكثيرًا، وهو يبعث على القلق بأكثر مما يثير الارتياح، وهو أمر يعود بالدرجة الأولى فى أسبابه للسعى لفرض الاستقرار المصنوع، لا خلق أسباب الاستقرار الحقيقى. ولا يمكن لأحد إنكار أن السلطة الحالية جاءت عبر تمتعها بشرعية شعبية واسعة، وأنها لا تزال تمتلك غطاءً شعبيًّا عريضًا، غير أن عدم الالتفات من جانب قادتها وصانعى القرار فيها لمعدلات التناقص والتراجع المطرد فى هذه الشعبية، حتى وإن كانت لا تزال فى أوساط محدودة، هو نذير خطر حقيقى، ومحاولات حصره فى من تصنفهم السلطة أعداءً للدولة بالأساس، أو تعتبرهم خصومًا لها، أو حتى تعتقد أنهم لديهم موقف معارض لها منذ البداية، يبدو نوعًا من سوء التقدير الذى نخشى أن يكون متعمدًا، وهو أمر رغم غرابته يبدو متسقًا مع طبيعة وتركيبة السلطة الحالية ومنطقها ومنهجها فى التفكير، فهى سلطة فردية أبوية عنيدة مستبدة تحتكر الوطنية وتقصى معارضتها وترفض الاستماع للرأى الآخر، فضلًا عن تشويه وتهميش أصحابه. لكن الحقيقة أن الواقفين على حافة الغضب رقعتهم تتزايد وتتسع، وتمتد لتشمل قطاعات كان بعضها مؤيدًا بأكثر مما ينبغى للنظام الحالى، ظنًّا بأنه سيكون نظامًا جديدًا مواكبًا لاستحقاقات ثورتين فى البلاد، وسينتهج سياسات جديدة فى جوهرها لا فى شكلها، وسيستعين بعقول مختلفة خارج صندوق الحكم المعتاد خلال العقود الماضية.. وهؤلاء تتنوع انتماءاتهم السياسية وطبقاتهم الاجتماعية وفئاتهم المجتمعية، بما لا يمكن جمعهم أو شملهم فى إطار واحد محدد، حسب تصنيفات السلطة. فمن أطباء إلى مهندسين وقبلهم محامون، ومعهم صحفيون وإعلاميون، ومن قطاعات شابة مسيسة إلى شباب فى القرى والنجوع لا يشعر بتحسن جاد فى أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية، ومن طلاب يتظاهرون إلى طلاب ينتخبون اتحاد طلاب ممثلًا لهم، ومن قوى سياسية معارضة جذريًّا إلى قوى سياسية كانت مؤيدة وداعمة وبدأت تراجع مواقفها وإن لم يحدث فيها تغيرات جادة حتى الآن، ومن شخصيات سياسية ومثقفين وأدباء وكتاب، ومن عمال وفلاحين وموظفين، ثم أضف إلى كل هؤلاء أهالى وذوى محبوسين ومحتجزين لم يتورط أبناؤهم فى عنف أو دم أو فساد، أو حتى تورطوا فى جرائم لكنهم يلقون معاملة مسيئة ومهينة، كل هؤلاء وغيرهم طابور طويل يتسع ليشمل ألوانًا مختلفة ومتنوعة من المواطنين المصريين الذين لا يرضيهم الحال ولا يشعرون أن البلاد تسير على طريق سليم وجاد فى التغيير والإصلاح. الحديث عن أسباب ذلك كله يطول، وهى ليست المرة الأولى التى يجرى فيها الحديث حول ذلك كله، وقد توالت التحذيرات منذ وقت مبكر للغاية على سوء الاختيارات وخطورة النتائج، ومع ذلك لا يزال ذات المسار مستمرًّا، وللأسف دون استعداد جاد ونية حقيقية على المراجعة والمعالجة، وباستثناءات محدودة جدًّا لا يستطيع أحد عدم التوقف أمامها مثل واقعة قتيل الدرب الأحمر على سبيل المثال، فإننا لا نجد ولو موقفًا يتخذ إجراءً حقيقيًّا يصحح الأخطاء، والأهم يضمن عدم تكرارها، بل وفى الأرجح نجد على العكس تمامًا تمسكًا بنفس المنهج وإصرارًا على نفس التوجهات، والأدهى أننا نرى دلالات مباشرة وعلنية للاعتقاد بصحة هذا الطريق وحده، وأن من يختلف معه إما يسعى لهدم الدولة وإما أنه لا يعرف ولا يعلم حقائق الأمور، وكأن السلطة لم تعد فقط تحتكر الوطنية بل كذلك العلم والمعلومة، فتصبح النتيجة النهائية لهذا المنهج فى التفكير هى دعوة الآخرين لأن يصمتوا وألا نستمع لأحد سوى رئيس الدولة! ربما يرى البعض أن هناك من يتصيد الأخطاء، وربما يظن آخرون أن هناك من يضخم ويهول من هذه الأخطاء، ومثال ذلك ما جرى فى خطاب السيسى الأخير الذى استخدم فيه لغة ولهجة جديدة تنذر بمزيد من الخطر والقلق، لكن الحقيقة أن القضية ليست فى التصيد ولا فى التهويل، وإنما فيما تكشف عنه مثل هذا الخطاب وما احتواه من طريقة فى التفكير، وربما حسب تحليلات متعددة تكون كلماته موجهة لأطراف بعينها وليست لعموم المصريين ولا حتى لعموم المعارضين، وبغض النظر عن الاتفاق أو الخلاف مع تلك التحليلات، فجوهر المسألة هنا هو ما تعبر عنه وتكشفه مثل هذه الكلمات عن منهج وتفكير وتصور وتوجه، وهو ليس جديدًا بالمناسبة، بل كان واضحًا بشكل مبكر فى مواقف وخطابات أخرى عديدة، لكن ربما هذه المرة كان أكثر بروزًا وجلاءً. لكن خطورة الخطاب الأخير هذه المرة أنه جاء ليواجه إحساسًا بالأزمة، بطريقة تزيد من تعميق الأزمة، فلا طرح رؤية ولا قدم حلولًا، وإنما تأكيد على التمسك بنفس المسار، وأن ما فيه من أخطاء لا يمثل إلا (حالات فردية) وأجزاء يمكن تبريرها، وهنا تكمن الأزمة الحقيقية للسلطة، فهى غير قادرة على إدراك اتساع حجم الغضب المكتوم حتى وإن تعاملت مع أجزاء منه أحيانًا، وهى غير قادرة على استيعاب أنه لم يعد يخص المعارضين أو الخصوم السياسيين وحدهم، كما أنها وربما بسبب ذلك غير مستعدة لتقديم معالجات جادة له.. وهذا فى الحقيقة لا يؤدى فى النهاية إلا للمزيد من اتساع رقعة الواقفين على حافة الغضب، حتى يصل الغضب إلى ذروته!!