جوهر تحرير العقل هو سؤال الحرية عمومًا كمفهوم وقيمة سياسية رئيسة ضمن نظام القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية، فى إطار تطور الكفاح الإنسانى إزاء السلطات الاستبدادية على مختلف أشكالها وممارساتها القمعية، والتجارب الإنسانية الكبرى فى هذا المجال التى تشكل مراجع للخبرات للعقل والكينونة والوجود الإنسانى كله، وذلك كمنارات وأدلة وعلامات تستهدى بها وتستصحبها المجتمعات المقهورة فى سعيها للحصول على حرياتها وتحررها من أصفاد الديكتاتوريات والتسلطيات السياسية والدينية والعرقية واللغوية والقومية، فى بعض الدول والمجتمعات التى لا تزال تعانى من الشمولية والطغيانية والتسلطية والقمع، وبعض هذه المجتمعات يقع فى الدائرة العربية والإسلامية، والتى باتت تشكل معضلة تفسيرية أمام الباحثين والمفكرين والمثقفين فيما بات يطلق عليه الاستثناء العربى، وهو ما يعنى أن هذه المنطقة تشكل استثناءً على الثورات الديمقراطية التى شملت عالمنا بعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية فى أعقاب سقوط حائط برلين، وتحول دول الكتلة السوفييتية إلى دول ديمقراطية على النمط الغربى، ثم التحولات الديمقراطية فى أمريكا اللاتينية وبلدان أخرى فى جنوب العالم فى آسيا وإفريقيا، وبقية المجتمعات والدول العربية وبعض الدول الإسلامية تشكل استثناءً، واستعصاءً على التحول السياسى الديمقراطى، وساغ خطاب الاستثناء والاستعصاء العربى فى أعقاب فشل ما أطلق عليه مجازًا الربيع العربى والانتفاضات الثورية، وتحول إلى حالة من الاضطراب السياسى، وتعثر عمليات الانتقال الديمقراطى فى ظل صعود الحركات الإسلامية السياسية كجماعة الإخوان المسلمين، والسلفيين، والقاعدة و"داعش"، والسلفيات الجهادية فى شمال إفريقيا، وفى بعض البلدان الإفريقية الأخرى. هذا الخطاب حول الاستثناء العربى الإسلامى واستعصائه على القبول بالقيم والنظم والآليات الديمقراطية، يسود بعض الكتابات الغربية والعربية، وهو جزء من التعميمات السائدة، وغير الدقيقة بحثيًّا، على الرغم من رواجها فى بعض الدوائر البحثية والسياسية والإعلامية. أحد التفسيرات وراء ما اعتبره بعضهم استثناءً واستعصاءً عربيًّا يكمن فيما وراء تعثر مسألة الديمقراطية والتحول نحوها، أو قضايا الحريات عمومًا التى لا تزال تفرض عليها عديد القيود الباهظة، وهو ما يتمثل فى مشكلات وإشكاليات تمس تكوين العقل العربى الإسلامى الذى يعانى من عديد من الاختلالات التكوينية، وفى طرائق نظرته للذات، وللعالم، وللتاريخ، والزمن، ونمط مقارباته للعلاقة بين النص والعقل والسياق، وفى مقارباته التأويلية والتفسيرية الوضعية التى باتت تشكل ضغطًا مستمرًّا على إمكانيات تحرره وانطلاقه، ويعود ذلك إلى علاقة الفقيه والسلطان، وتحول الأول إلى مؤسسة دينية تحتكر التفسير والإفتاء وتميل مع السلطان -أيًّا كان اسمه وسمته ونظامه- حيثما يميل. فى هذا الصدد، ركز د.جابر عصفور فى كتابه الهام "تحرير العقل" على العلاقة التى ربطت بين السلطان الفاسد، والفقيه الفاسد والتحالف التاريخى بينهما، وهى حالة من الاستتباع من بعض الفقهاء الفاسدين -وليس كل الفقهاء كذلك- الذين ظهروا تاريخيًّا كداعمين وتابعين لبعض السلاطين الفاسدين. 1- لا شك أن هذه الإشارة هامة فى سياق تحديد الأسباب التاريخية فيما وراء التوظيف السياسى السلطانى الفاسد للفقيه فى دعم استبداده، وفى فرض القيود على العقل العربى الإسلامى وحرياته فى الفكر والإبداع والتعبير. 2- أشار دكتور جابر عصفور إلى كيف استعدنا فقيه السلطان والفقه الذى يحيل الآخر المختلف إلى عدو، رافضًا الاختلاف والتباين والتنوع، مؤثرًا التقليد والاتباع منكرًا كل جديد، وبخاصة ذلك الذى يأتى من الآخر عدو الدين، رافضًا معنى "الوطن"، الذى هو بدعة، اخترعها أعداء الخلافة الذين هم أعداء الإسلام، وكانت النتيجة أننا استبدلنا الذى هو أولى بالذى هو خير، ووضعنا فقه التطرف والتعصب موضع فقه التسامح والمجادلة بالتى هى أحسن، وانقلب التطرف والتعصب إلى إقصاء للآخر المختلف وقمع له" (ص 254 من الكتاب). 3- عدم قيام الأزهر ورجاله ونسائه بما يجب عليهم القيام به من تجديد الخطاب الدينى. والسؤال هل هم قادرون على القيام بهذه المهمة التاريخية الضرورية، أو غالبهم فى هذا الصدد؟ أم أن التكوين النقلى وعقلية الحفظ والتكرار والتلاوة والعنعنة للموروث الفقهى والإفتائى الوضعى، يجعل هذا التكوين لغالبيتهم يقف عقبة دون أداء مهمة التجديد حتى ولو أراد بعض هؤلاء النقليين؟ ويبدو أن إحدى عقبات تحرير العقل الدينى الإسلامى تتمثل فى تحول المؤسسة الدينية الرسمية لدى بعضهم إلى سلطة دينية وانغماسها فى السياسة، والأخطر هو التسييس المذهبى، على نحو ما تقوم به المؤسسة الوهابية، والسلطة السياسية من حرب مذهبية من السنة ضد الشيعة –ومن الطرف الشيعى إزاء الأطراف السنية- وذلك على أنقاض التقليد التاريخى المصرى، وموروث الأزهر فى التقريب بين المذاهب، ومنها عديد البيانات السياسية التى صدرت فى هذا الصدد لتأكيد الحرب المذهبية إذا جاز التعبير وساغ! فى هذا الإطار يمكن القول إن استراتيجية الدكتور جابر عصفور التحليلية قامت على تقديم بعض وقائع الغلو والهيمنة للمؤسسة الدينية الرسمية فى تعاملها مع بعض المجتهدين، ومنها على سبيل المثال: 1- اجتهاد الشيخ عبد الحميد بخيت فى مقال له بجريدة "الأخبار" عام 1955 حول الصيام لمن لا يطيقه، وتحويله إلى المحاكمة التأديبية، التى أصدرت حكمًا بإحالته إلى عمل إدارى ومنعه من التدريس بالجامعة، وطعن على الحكم وأعاده القضاء إلى عمله. 2- برنامج إسلام البحيرى ومطالبة هيئة الاستثمار بإغلاق البرنامج ومنعه وذلك بعد تقديم بعضهم (من الآحاد) شكوى إلى النيابة العامة، ثم محاكمته. 3- دور بعض الغلاة من السلفيين فى ممارسة الحسبة واعتداء بعضهم على شاب يجلس فى مكان عام مع خطيبته وقتله فى مدينة السويس. 4- الحكم على نصر حامد أبو زيد بالردة وتفريقه عن زوجته سنة 1997. عرض د.جابر عصفور الوقائع السابقة السرد وموقف المؤسسة الدينية منها فى سعيه وراء تأكيد مواقفها المتشددة أو بعضها بتعبير أكثر دقة، وعدم مشروعية ذلك القانونية والدينية، حيث لا سلطة دينية فى الإسلام. ومن ثم لا سلطة لمسلم مهما على درجة علمه بالدين على مسلم آخر إلا حق النصيحة والإرشاد لا حق الأمر والنهى والتخويف. فى مجال نقده للفكر الدينى (الكل) والخطاب الدينى (أحد تعبيراته)، يقدم تفسيرًا وتأويلاً تقدميًّا للإسلام، الذى يناصر حرية الفكر بالمساواة والمواطنة والتحفيز على التقدم، وحرية الإرادة الفردية، فى دعم الحريات السياسية، والبعد الإنسانى للإسلام بما يؤكد التعددية الاجتماعية والتنوع الإنسانى الخلاق، والمساواة، ونفى التمييز ضد المرأة، واحترام الإسلام للأديان الأخرى، والتكافل الذى يؤكد معنى العدل الاجتماعى. من ناحية أخرى يربط د.جابر عصفور بين رؤى العالم السائدة فى المجتمع وبين وضعية المجتمعات من حيث التقدم والتخلف والحرية والاستبداد السياسى والدينى. فى ضوء هيمنة التكوين التعليمى الفقهى والإفتائى والتفسيرى النقلى التقليدى فى المؤسسة الدينية الرسمية -واللا رسمية- تبدو الأزمات الممتدة للعقل الدينى مستمرة، حيث يعيد نظام التعليم والتكوين والتنشئة الدينية إنتاج ذاته مجددًا، ومن ثم يقف عقبة إزاء أية مشروعات أو أفكار ترمى إلى تجديد الخطاب الدينى كى يستجيب لمستجدات عصرنا وظواهره وأسئلته، بل واحتياجات الإنسان الروحية فى إطاره. من هنا يثور سؤال هام يطرحه تحرير العقل -المسألة والكتاب- لماذا لم تتحقق مطالب تجديد الخطاب الدينى حتى الآن؟
إن دعاوى تجديد الخطاب الدينى ومؤتمراته الرسمية لم تحقق الأهداف المرجوة منها لعديد الأسباب منها تمثيلا لا حصراً ما يلى: 1- دارت غالب ما قدم منها من أوراق ذات طبيعة عامة أكثر منها دراسات بحثية مدققه حول الخطابات الدينية السائدة فى الأسواق الدينية، وطبيعة السلع الدينية -بالمعنى السوسيولوجى- المطروحة، ومنتجيها وأهدافها والمصالح الحاملة لها. من ثم هى خطابات تأملية، وبذاتها لا تؤدى إلى فعل فى اللغة والواقع من ثم هى خطابات هروبية حول أزمة الخطابات لا أكثر ولا أقل. 2- الافتقار فى دعاوى تجديد الخطاب إلى إرادة سياسية ورؤية حول التجديد عمومًا. 3- التكوين التعليمى لغالب رجال الدين، وعلى صعيد إنتاج اللغة نقلى واتباعى وتقليدى، ومن ثم تكشف لغتهم وأساليبهم اللغوية عن سطوة القديم اصطلاحًا ولغة ودلالة، وتعبيرًا عن العقل الحافظ الذى يعيد تلاوة النصوص والشروح لمؤسسى الفقه والتابعين وتابعى التابعين.. إلخ. 4- التجديد الفكرى أو المؤسسى، يؤدى إلى تغييرات ثم تحولات فى البنى الفكرية وطرائق مقاربة الظواهر، وفى بنية المؤسسة والفاعلين داخلها ومواقع القوة، ومن ثم يواجه بشراسة من بعض القوى الفاعلة داخل المؤسسة حفاظًا على مكانتها ومصالحها، وهؤلاء هم القوى الاتباعية المضادة لأى تغيير يمس سلطتها ونفوذها ومصالحها. 5- الجمود والعقل الحافظ النقلى ليس أزهريًّا فقط، وإنما هو حالة فكرية عامة، من حيث الانغلاق وعدم الانفتاح على المتغيرات داخل المجتمع وفئاته الاجتماعية المختلفة، ولا فى الإقليم أو العالم لا يزال منمطًا داخل الثنائيات الضدية دار الإسلام ودار الحرب، والنظرة إلى الإنسان لا تزال كما هى مسيجة بالرؤى التقليدى الإيمان والكفر والفسق وإلى المرأة، حيث لا تزال التقاليد الموروثة -الاجتماعية والذكورية- صارمة، ولا يستجيب الفكر للجديد والمتغير. 6- النضال الثقافى عن الدينى فى التعليم الدينى، والتعليم المدنى، ناهيك بضعف تدريس المناهج السوسيو- لغوية، والاجتماع الدينى، والاطلاع على مناهج دراسة الأديان المقارنة، التى تعتمد على منهجيات حديثة فى اللغة والاجتماع والفنون.. إلخ. 7- تمدد سلطة المؤسسات الدينية الوهابية وتأثيرها على بعض رجال المؤسسة، وعلى غالب الدعاة السلفيين ودعاة الطرق بتعبير الأستاذ العميد د.طه حسين ومن يخرج عن دائرة خطاباتها، يحرم من الذهاب إلى الجامعات أو المراكز الدينية فى دول النفط. 8- شيوع إحساس شبه جمعى لدى غالب الأزهريين بأنهم محاصرون، وأن دورهم يتراجع فى ظل ثورة الرقميات والفضائيات، واتساع منتجى السلع الدينية على اختلافها، وشيوع النزعة المحافظة والمتشددة ومحاصرتهم للاعتدال، واتهامهم بأنهم فقهاء السلطان. من ثم مال بعضهم منذ نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضى إلى التشدد لمواجهة الجماعات الإسلامية الراديكالية. 9- تراجع بعض أدوار الأزهر العالمية من خلال ظهور المؤسسات الدينية الوطنية النظيرة، واعتماد الدول على هذه المؤسسات التابعة لها، وبعض الدول لم تعد تعترف بشهادات الأزهر كتركيا وتونس. 10- إحدى آليات المؤسسة ورجالها الدفاعية تتمثل فى الحفاظ على الموروث الفقهى الوضعى، والهجوم على بعض المجددين، أو مطاردة السرديات التخييلية، وتعبئة الجمهور فى مواجهة المثقفين فى ظل سطوة أميات متعددة الأنماط والأشكال وعلى رأسها الأمية الدينية. والسؤال كيف يمكن تجديد الخطاب الدينى كما يطرحه د.جابر عصفور فى كتابه الهام تحرير العقل؟ هذا ما سوف نتناوله فى المقال القادم.