يشكل كتاب تحرير العقل للدكتور جابر عصفور واحدًا من الكتب الهامة التى ظهرت مؤخرًا، وذلك لوضوحه الأسلوبى والإصطلاحى، ومنهجيته فى مقاربة موضوعاته المتعددة والهامة التى اشتمل عليها الكتاب على نحو ما أشرنا إلى بعضها فى المقالات السابقة. فى هذا الإطار نستكمل عرضنا الحوارى لقضايا الكتاب، وذلك على النحو التالى: أولًا: الجدال الأحسن أن نظرة عميقة على المحاورات والسجالات التى أوردها الكاتب الكبير د.جابر عصفور عن القضايا التى طرحت على العقل المصرى والعربى فى بدايات وأثناء تبلور مشاريع الأحياء والتجديد الفكرى، تشير إلى بعض هذه القضايا، أتسم بالجرأة والشجاعة، ولم تدفع بعض الإصلاحيين الإسلاميين إلى امتشاق سلاح التكفير الدينى، وإنما الحوار مع الآراء الجديدة الصادمة من خلال المحاججة، وليس عبر الإقصاء والاستبعاد على نحو ما نرى منذ أكثر من أربعة عقود منذ صعود سلطة الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية والسلفيات الجهادية ونزعتهم الأقصائية ورؤاهم القديمة الوضعية المغلقة التى تعتمد على الثنائيات الضدية حول الحلال والحرام والكفر والإيمان فى غير مواضعهم. من هنا وفق كاتب تحرير العقل، فى طرحه لبعض هذه الحوارات، ومن ثم من الشيق ملاحظة الحوار الخلاق بين جمال الدين الأفغانى، وشبلى الشميل حول النشوء والارتقاء الدروينى. بينما ذهب الغلاة إلى تكفيره، اختلف معه واعتبره مقلدًا لأفكار غربية إلا أنه أكد كما ذهب الكاتب "إلى احترامه بوصفه حكيمًا من حكماء الشرق" (ص 34 من الكتاب). وصحيح ما ذهب إليه د.جابر عصفور من أن حوار الأفغانى مع نظرية التطور لا يكشف فحسب عن تسامحه اللافت فى الحوار على المخالفين له، واحترامه حق المخالفة حتى لو كانت فى الأديان، بل يكشف فى الوقت نفسه عن إفادته من تراثه العقلانى فى ممارسة مبدأ التسامح الذى اقترن بأفكار التنوير الأوروبية". (ص 34). ويبدو لى أن الأفغانى ربما استفاد من مبدأ حرية التدين والاعتقاد والتسامح فى الفقه والفكر الإسلامى تأسيسا على قاعدة "ذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، ومن ثم لم يلجأ إلى موروث الغلاة اللاعقلانيين من استسهال اللجوء إلى مبدأ التكفير. الأفغانى فى إطلاعه على بعض الفكر الأوروبى الوافد والمبتسر فى عرض شبلى الشميل المبسط عن نظرية النشوء والارتقاء، كان بمثابة تنشيط للذاكرة الاعتزالية والعقلانية الرشدية، حول سلطان العقل، وعودة المرجعية لها، واستصحابه لمبدأى حرية التدين، والفكر، والتسامح فى تعامله مع آراء شبلى الشميل وداروين واختلافه مع بعض ما انتهى إليه كليهما لاسيما الأول. لا شك أيضًا أن الإمام "محمد عبده" التلميذ النابه لأستاذه جمال الدين الأفغانى ورث النظر العقلى عنه، وغاص به فى ممارسته الفقهية والكلامية من حيث "إقامة ديانة عقلية" وفق تعبير الكاتب أصلها الأول: النظر العقلى وأصلها الثانى: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض وأصلها الثالث: التسامح والبعد عن التكفير وأصلها الرابع: الاعتبار بسنن الله فى الخلق وأصلها الخامس: القضاء على أية سلطة دينية. من هنا جاء تجذير مصطلح الدولة المدنية الذى أطلقه سعيد العشماوى وأعطاه زيوعًا وانتشارًا جابر عصفور إلى الإمام محمد عبده انطلاقا من كتاب محمد عبده الإسلام دين العلم والمدنية، الذى هو مرافعة محمد عبده عن الإسلام فى مناظرته مع فرح أنطون عام 1902. يبدو لى أن موقف رواد وطلائع النهضة العربية فى رجوعهم إلى التراث لم يكن فقط محضُ آلية دفاعية عن الذات، والهوية، وإنما لجأ إليه بعض الأوروبيين فى تحديثهم للقانون كما حدث فى ألمانيا بالرجوع إلى بعض التقاليد القانونية الجرمانية. وهو ما تم فى إطار تأصيل بعض أو غالب القوانين اللاتينية- الإيطالية والفرنسية والبلجيكية- عبر الترجمة والغوص فى الحقوق الشرعية والفقهية لإيجاد التعريب المناسب والملائم لبعض المصطلحات القانونية الحديثة، إلا أن الأمانة تقتضى أن هذا التوجه أو الاستراتيجية التعريبية، حملت معها ظاهرة إضفاء الشرعية الثقافية على الوافد الجديد من ضمن منظومة الإصطلاحات الشريعية/ الفقهية وموروثاتها، وهو ما أدى إلى بعض من عدم الانضباط الدلالى وعدم الدقة فى التعريب، وهو ما فطن إليه بعض الباحثين العرب فى هذا الصدد. ويمكن لنا مًدُ هذه الملاحظة إلى الفكر العقلانى الأوروبى، إذ أن بعض هذه المؤلفات لم تترجم ترجمة كاملة، وإنما مختصرات لها، وبعض تعريب المصطلحات الفلسفية، لم يكن دقيقًا. من هنا يتعين القول أن الإطلاع فى العمق على إرث التنوير الغربى لم يكن مكتملًا، وما تم كان على صعيد التعريف العام لدى بعض المفكرين العرب، وليس كلهم، وثمة استثناءات فى هذا الصدد. يلاحظ أيضا أن بعض الترجمات كان لها أثر على بعض المثقفين ومنهم محمد عمر موظف البوستة (البريد) العمومية بالعتبة الذى تأثر بكتاب ديمولان سر تقدم الإنجليز الأنجلو ساكسون الذى ترجمه أستاذه، فتحى زغلول باشا، وكتب سر تأخر المصريين، وهو كتاب هام لم يأخذ حقه من الذيوع ككاتبه المثقف الذكى. وصحيح ما ذهب إليه المفكر البارز د.جابر عصفور فى قوله أن الرجوع إلى التراث (العقلانى المعتزلى والرشدى) لدى الأفغانى وعبده كان آلية دفاعية، وكان أيضًا "فعلا موازيًا" فى مواجهة عناصر الحاضر التى تسلحت بالماضى لمحاربة التنوير (ص 41). وهو ما برز فى موقف الشيخ عليش المالكى المقلد، من الإمام محمد عبده. ثانيًا: الموقف من التراث: نموذج الاعتزالى المجتهد استطاع الكاتب أن ينُمًذجَ الموقف من التراث لدى طلائع النهضة العربية فى نموذج الشيخ العقلانى محمد عبده (ص46) الذى كان أول من طرح سؤال النهضة. وإشكالية العلاقة مع الآخر "وثنائية السلطة الزمنية والروحية على سند من موروثه وتقبل أفكار الاستنارة بوصفها تجليات محدثه لما كان لديه فى تراثه العقلانى (ص 46 وص47) فى مواجهة مشايخ النقل من أمثال الشيخ عليش المالكى المقلد، من هنا كان رفاعة رافع الطهطاوى فى المقدمة إلى على مبارك فى علاقة الشيخ بالأفندى وهو النموذج الثانى، ومحمد عبده الذى أفضى إلى الأفندى قاسم أمين. وهى ثنائية المثاقفة بين التعليم الدينى ومثاقفة التعليم المدنى، وهى الثنائية التى أفضت إلى اقترانى طرفها الثانى الأفندى بجذرية الدعوة المتصاعدة إلى فصل الدول عن الدين. فتح الشيخ العقلانى –محمد عبده- الطريق إلى الأفندى الذى مايز بين الدين كمطلق ومقدس ومنزه وبين التراث البشرى النسبى، ومن ثم مايز بين الدينى والدنيوى، ومن ثم رفع أية قداسة أو مُسًّ منها على التراث بوصفه منتجًا بشريًا وتاريخيا ونسبيا وهى نظرة مدنية بامتياز وفق تعبير الكاتب الدقيق، وهى مدخل أساسى لتحرير العقل من أوهام العبادة الصنمية للماضى، وأسطورة إحياء العصر الذهبى أو إعادة استنساخه، من هنا كان ذلك إيزانا بالتخلى عن مبدأ القياس للجديد على أصل قديم ومن ثم كان ذلك مدخلًا للنظر فى قضية محورية هى تحرير المرأة من الأغلال الماضوية المجتمعية. إن نموذج رجل الدين. الاعتزالى المجتهد الذى راده الإمام محمد عبده كان يتطلب وضعه ضمن نماذج أخرى من رجال الدين الغلاة فى مراحل أخرى بعد رحيل الأستاذ الإمام، والذين يشكلون نموذجًا للعقل الماضوى الوضعى الذى يعيد إنتاج وتلاوة بعض النصوص الفقهية أو الإفتائية لمؤسسى المذاهب الإسلامية وللمقلدين لهم، والتابعين وتابعى التابعين. من ناحية أخرى العقل السلفى التقليدى- ونظائره وأشباهه- عقل لا تاريخى، أى لا يربط بين الإنتاج الفقهى والأفتائى، وبين أسئلة العصر ومشكلاته وأزماته، وبناه الاجتماعية والثقافية، وإنما يعزل النصوص الفقهية والافتائية عن تاريخها وفواعله وسياساته التى كان يتحرك الفقيه المقلد فى إطارها، وفى ظل مراعاة ضوابط الحكم والسلطان المتغلب. ثمة تنزيه للفقيه المقلد والمفسر من دوافعه ومصالحه الاجتماعية وتكوينه، وأثرها على اختياراته وآراءه وهى مقاربة لا تاريخية وخاطئه. العقل الماضوى للفقيه والمفسر المقلد يبدو أسير لغة الأصل وبلاغته الأصولية، او نسقه اللغوى ومجازاته التقليدية القديمة. من ناحية أخرى يبدو مهما درس العلاقة بين محمد عبده وتلاميذه من الأزهريين المباشرين، أو من جاءوا بعدهم، وبحث لماذا تراجعت أفكارهم التجديدية لصالح سطوة العقل النقلى والاتباعى داخل المؤسسة وخارجها لاسيما لدى بعض الإخوان المسلمين والسلفيين وجماعاتهم. وتبدو ملاحظة الصديق المفكر خالد زيادة على تحرير العقل من تركيزه على المفكرين المصريين وإغفال أدوار خير الدين التونسى وبطرس البستانى. من ناحية أخرى كان يمكن درس نموذج المجتهد الاعتزالى فى سياق نماذج أخرى على نحو ما قام به عبد الله العدوى فى الإيديولوجية العربية، حيث درس نموذج محمد عبده الداعية الدينى، فى سياق نموذج سلامة موسى داعية التقنية وآخر. وهل لا تزال هذه النماذج مستمرة أم أن ثمة نماذج أخرى جديدة أفرزها الواقع الاجتماعى والثقافى والسياسى والدينى العربى والمصرى. هذه الملاحظات لا تقلل قط من عمل الكاتب القدير وعمله المتميز، لاسيما تناوله فيما بعد مسألة تجديد الخطاب الدينى ومن الشيق ملاحظة أن الكاتب أحسن صنعًا فى الربط بين ثورة مصر الوطنية الكبرى فى 1919 وبين الليبرالية، والليبرالى الإسلامى البارز محمد عبده، والتلازم بين الخطاب الدينى الاجتهادى الذى أسس له وبين دوافع ثورة 1919، حيث أنطوى هذا الخطاب على المبادئ الوطنية المدنية التى نادى بها سعد زغلول وأقرانه من قادة الثورة (ص235)، والتى حرر العقول من التقليد الجامد. هذه الملاحظة الهامة تكشف عن أن التجديد فى الفكر والخطابات الدينية والثقافية، ترتبط بالحركية السياسية، والحريات العامة والشخصية، وعلى رأسها حرية الرأى والتعبير، وحرية التدين والاعتقاد، لأنهما يفتحان الطرق أمام الأسئلة الجديدة والإشكاليات المغايرة، التى تؤدى إلى حيوية العقل الناقد الذى يساءل أسئلته وأسئلة الأقدمين والمحدثين معا سعيا وراء إجابات جديدة ومغايرة. ومن الأمور الجديرة بالدرس والبحث العلاقة بين تجديد الفكر وتجديد اللغة، حيث تفتح اللغة الجديدة وصياغاتها وأساليبها الطرق نحو تجديد الأفكار. وللحديث بقية.