يبدو الأمر وكأن الإسلام يرفض النصيحة! وبرغم هذا الإيحاء السلبى إلا أن كثيراً من المسلمين، خاصة كبار قياداتهم الدينية، لا يبذلون جهداً فى إصلاح الخلل، بل إن بعضهم يدفعون إلى المزيد الذى يعزز هذا المعنى، ويعلنون رفضهم المتشدد لإبداء الملاحظات والانتقادات التى تُوجَّه من غير المسلمين، بل ومن أخوتهم المسلمين، على بعض التصرفات، حتى ما لا يدخل منها فى صلب العقيدة! فكيف يُلقِى هؤلاء وراء ظهورهم تراث طلب العلم ولو فى الصين، ووقائع الاستفادة من علوم الأعداء وخبراتهم؟ حَمَل الأسبوع الماضى وحده واقعتين تستحقان النظر: الأولى، فيما قاله نتينياهو إن ميكرفونات المساجد تسبب الضوضاء فى الأراضى الخاضعة للاحتلال الإسرائيلى، وإنه لا يمكنه التسليم بعدم احترام القانون، لأنه لا يوجد أى نصّ دينى يتيح إزعاج الناس بالميكرفون، وأضاف بأن هناك معاناة كبيرة للمواطنين العرب أنفسهم المتواجدين قريباً من المساجد، وبأنه ما دام هنالك قانون يتعامل مع الضوضاء فلنقم بتطبيقه. دَعْ عنك مؤقتاً أن نتينياهو العدو الأول، ولاحِظْ أنه لا يتحدث عن المساجد فى العالم، وإنما فى الأراضى التى تخضع لقانونه، ولكن أليس مضمون هذا الكلام، بل وبعض ألفاظه، تتردد يومياً فى الدول الإسلامية؟ ألم يكن قرار وزارة الأوقاف المصرية بتوحيد الأذان فى المساجد المتجاورة ينطلق من نفس المنطق وبناءً على نفس الأسباب، حتى مع تقاعسها بعد ذلك عن تطبيق قرارها؟ ثم، ما الذى أضفى على استخدام الميكرفون هذه القداسة واعتباره أداة شرعية، وكأن الصلاة لن تُقبَل إلا به؟ ولماذا يثور الكثيرون من مجرد طرح فكرة أنه يتسبب فى الضوضاء؟ ثم، هل يجهل هؤلاء أن اختراع الميكرفون حديث مقارَنة بتاريخ الإسلام، وأن عمره لا يزيد عن قرن ونصف القرن فقط؟ أى أن انتشار الإسلام فى العالم وانتصارات الفتوحات كلها جرى دون الميكرفون، بل إن اعتماد الميكرفون فى المساجد تزامن مع فترات استضعاف المسلمين وهوانهم فى العالم وخضوعهم للاستعمار، وأن الميكرفون لم ينجدهم ولم يخفف من كل الكوارث التى حاقت بهم! إن كثيراً من المسلمين فى الدول الإسلامية يشكون من ميكرفونات المساجد، خاصة عند استخدامها على أعلى درجة بأصوات منكَرة، ومع إلقاء الخطب والدروس الدينية عبرها؟ بل إن هناك تبعات يعانى منها الآباء والأمهات من فزع الأطفال النائمين عندما ينطلق الميكرفون فجراً! والغريب أن يرى البعض كلام نتينياهو مؤشراً إضافياً على اضطهاده للمسلمين ودليلاً دامغاً على عنصرية إسرائيل، ويُصرّون على التحدى؟ الواقعة الثانية، جاءت فى مقال كتبه رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، فى صحيفة "التايمز" البريطانية، نقله موقع بى بى سى بالعربية، تناول فيه عدداً من الموضوعات، منها ما قال إنه عزل تتعرض له النساء المسلمات، وكلامه محصور أيضاً على النساء فى بلاده وليس عبر العالم. وتناول ما سماه "ممارسات مرعبة" مثل ختان الفتيات والزواج القسرى، أى إرغام فتيات مسلمات فى بريطانيا على الزواج من أشخاص لا يرغبون فى الارتباط بهم. وأضاف بأن هناك حاجة إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات الحازمة لمعالجة التمييز ضد النساء المسلمات وما يعانينه من عزل فى بعض المجتمعات المحلية البريطانية، وعرض مشروعاً لتعليم اللغة الإنجليزية للنساء اللائى لم يتعلمنها على سبيل المساعدة على دمجهن فى المجتمع. وأضاف بأنه قد حان الوقت لمواجهة الأقلية المسلمة من الرجال التى لها "مواقف رجعية"، إذْ تمارِس سيطرة مدمرة على النساء فى أسرهم. ومما جعل كلامه متوازناً قوله إنه سمع أمثلة عظيمة تخصّ نساء عديدات ازدهرت أحوالهن فى بريطانيا، ولكن بعضهن رسمن صورة مزعجة بشأن العزل القسرى الذى تعانى منه بعض النساء المسلمات فى بلاده، والتمييز والإقصاء الاجتماعى عن المشارَكة فى التيار الرئيسى للحياة فى بريطانيا. بعد كل هذا الوضوح انطلقت ردود الأفعال من كثير من المسلمين تتهم كاميرون بأنه يستعدى النساء المسلمات ويحرضهن ضد أزواجهن! بل وبدا هجوم البعض وكأنه دفاع عن الجهل، عندما انبرى عدد منهم يعطى نماذج ناجحة عن نساء مسلمات لا يعرفن الإنجليزية ولكنهن ربين أولادهن أفضل تربية حتى تخرجوا فى أكبر الجامعات وتقلدوا أكبر الوظائف! ما تفسير هذه الحساسية المفرطة السائدة فى الثقافة الإسلامية وفى أوساط عموم المسلمين، بل والكثير من خاصتهم، من أى نقد لما يعتبرونه مقدساً، بعد أن توسعوا فى تقديس ما لا يلزمهم به الإسلام؟ كيف ينتفض الملايين ضد أى تلميح لنقد خاصة إذا بدر من غير المسلمين؟ وكيف يتجاور هذا التوجه مع تعمد كثير من المسلمين، المستميتين فى الدفاع عما يرونه صواباً، أن يبادروا طواعية بازدراء أديان الآخرين ووصم كتبهم المقدسة بالتحريف، واتهام أنبيائهم بالتدليس، والصراخ فى وجوههم بأن كفار وأن مآلهم إلى جهنم وبئس المصير فى قعر الجحيم، والتشكيك فى أى محاولة لمد الجسور؟ كيف تتوازن الفكرة، التى يزعم أصحابها إنها إسلامية، التى تجحد شركاء الوطن من أصحاب الديانات الأخرى حقوقاً أساسية فى ممارسة شعائرهم وتولى المناصب القيادية فى البلاد، ثم إذا بهؤلاء أنفسهم يعلنون حرباً بلا هوادة ضد من يتجرأ ويبدى ملاحظة حتى إذا كانت تستهدف إنصاف النساء المسلمات؟ هل يسعد هؤلاء حقاً وهم يرون الجفوة تزداد مع العالم، وأن مجتمعاتهم كلها تدفع ضريبة اختياراتهم؟