المصريون هم آباء البهجة والرقص والأغنيات المرحة، وكانت هذه الفنون هى الرفيق الأمثل لكل المناسبات العظيمة الخاصة والعامة، فى الزواج بكل مراحله، ثم الولادة، والسبوع، وفصول الطبيعة الأربعة، والحصاد، والزراعة، والفيضان، وتزويج النيل بعروس كل عام فى عيد وفاء النيل القديم، وشم النسيم. وتفنن المصريون فى إبداع تلك البهجة، والأغنيات المصاحبة لتلك المناسبات منذ قديم الأزل، وللعلاّمة الأثرى سليم حسن مجلد ضخم رصد فيه أشعار وأغانى المصريين فى العصر الفرعونى بكل أجياله. وكذلك قيام الثورات الشعبية وغير الشعبية، «أى العسكرية أو النخبوية»، لها أناشيد يؤلفها شعراء، وأحيانا لا يوجد مؤلف واحد للأغنية أو النشيد، وتلعب هذه الأشكال الغنائية دورا فى مقاومة المستبد، أيا كان هذا المستبد من الداخل أو الخارج، فالشعب الذى قال للمستعمر: «يا إيدن يا وش النملة مين قالك تعمل دى العملة» هو ذاته الذى أنشد: «بلدى يا بلدى والسلطة خدت ولدى» وكما كان المصريون يبدعون بهجتهم بالأغانى والرقص والأناشيد فى كل أنواع الفرح والسرور، كذلك كانت قرائحهم تتجلى فى المآسى المتنوعة، فأبدعوا فنون المراثى والعديد، وبقدر تعدد وتنوع الأحزان تشكلت أنواع التجليات عنها. وكان الموّال يصاحب الحالات الكثيرة لقصص شعبية مصرية عميقة، ومن أبرز ما أبدعه الموّال، حكاية «حسن ونعيمة»، التى نشرت صحيفة الأخبار فى 28 يوليو 1957 مقطعا من هذا الموال يقول: (يا حلو فكرك عليا كل ساعة حال من يوم عرفتك وانا مبلى فى تالت حال والزاد مرد عليا لم لجيت له حال بيت الطبيب فين انا اروح له واشوف لى حال) وقد تعددت الدراسات المتنوعة لفن الموال، وأبرز هذه الدراسات كتاب «الأدب الشعبى» لأحمد رشدى صالح، وكذلك كتاب «أدب الفلاحين» لشوقى عبد الحكيم، هذا الكتاب الذى كتب له الدكتور مصطفى مشرفة «مؤلف رواية (قنطرة الذى كفر) التى كتبها بالعامية»، مقدمة ممتعة وضافية، وقد جاء فيها: «فى المواويل إحساس متدفق، ولو أنه أبكم، وفيها ما لا تجده فى الشعر العربى من حرية النظم وتنوعه، ومن عدم التقيد بطول خاص للشطره، ووزن الموال كبقية أوزان الزجل هو نتيجة منطقية لتطور اللغة والحركات فى آخر الكلمات..». وفى الكتاب استطاع شوقى عبد الحكيم أن يجمع موال «حسن ونعيمة» من أفواه الفلاحين، وبذل مجهودا ميدانيا كبيرا حتى لا يضيع هذا الفن الشفاهى فى ظل كل مكتسبات العصر المكتوبة والمرئية والمسموعة. وكتب عبد الحكيم فى المقدمة حكاية الموال، إذ كانت مادة مستقاة من واقعة موجعة عام 1905، فى بلدة اسمها «المنشية».. وكان حسن واد.. ابن غرام، يغنى فى الأفراح، والموالد، ويعشق الليل والطرب والفن.. وذات يوم ذهب إلى بلدة نعيمة، ورآها وأحبها، وتحمس لكى يطلبها من والدها، الذى رفض بقوة لأن حسن كان مغنيا، وحاول حسن أن يقنع والد نعيمة بأن ممارسته للغناء ليست إلا هوايته وعشقه الأول، فهو ابن ناس كرام وأفاضل، ولكن حسن فشل فى إقناع والد نعيمة، فاضطر حسن إلى أن يخطف نعيمة ويهرب إلى بلده «بنوه النمس»، وبعد حكايات وقصص وصل أهل نعيمة إلى بلدة حسن، ليجدوها كريمة ومعززة وسليمة العرض، راحوا ليحرروها من هذا الذنب الذى ارتكبته، ولم يتوقف أهل نعيمة عند تحريرها فقط، بل قطعوا رأس حسن، وألقوا بجثته فى النيل، بعد أن أخفت نعيمة رأسه فى صندوق ملابسها. حكاية موجعة، يختلط فيها العشق بالمروءة بالثأر والتحرر والألم والقتل، ولم تمر هذه الحكاية دون أن تفجّر طاقة المصريين الإبداعية، لتتفتق عن موال من أجمل المواويل، ظل المصريون يرددونها على مدى القرن الماضى بأكمله، ويكتب عبد الرحمن الخميسى مسلسلا إذاعيا، ويذاع فى الخمسينيات، ويقال إن المصريين كانوا يلزمون منازلهم جميعا عند إذاعة هذا المسلسل، ثم أعده فيلما سينمائيا، من أنجح الأفلام المصرية، وقامت ببطولته الفنانة سعاد حسنى ومحرم فؤاد، وكانا يمثلان للمرة الأولى، بعد أن اكتشف الخميسى سعاد حسنى فى أثناء زيارته لصديقه عبد المنعم حافظ، الذى كان متزوجا من والدة سعاد حسنى، وكانت سعاد فى أثناء زيارة الخميسى تقف على حوض مياه تغسل بعض ملابسها، وتدعكها بيديها، وعندما رآها الخميسى أدرك فورا عبقرية الأداء الذى يمكن أن تقوم به فى السينما، واختارها لكى تكون بطلة فيلم «حسن ونعيمة»، وأحدث الفيلم آنذاك ضجة لا تحدث إلا للأفلام العظيمة. وكذلك كتب شوقى عبد الحكيم مسرحية، واستلهم الموال القديم، ولكن الخميسى وعبد الحكيم لم يلتزما حرفيا بوقائع القصة، ولكنهما راحا يعملان على النص الأساسى للموال، ولكنهما تعاملا بحرية كاملة فى معالجات متوسعة ومختلفة عن النص الأصل، وهذه قضية تطول مناقشتها، وفى السطور التالية أورد بعضا من مقاطع هذا الموال الموجع: (لو كنت أعلم بإن الوعد مدّارى لا كنت أطلع ولا اخطر قط من دارى وارضى بقليله، وأقول للقلب ماتدارى دارى على بلوتك ياللى ابتليت دارى حبيت فى رجب وهل الهلال شعبان جدع اسمه حسن، وجهه أزهى من هلال شعبان حبته بنيه إسمها نعيمة من المنشية الولد كان ابن ناس طيبين وطلع فى الغرام بيغنى وآدى الخير شاع بان «أى انتشر». ويسترسل الموال طويلا فى سرد وقائع القصة، فى لغة شجية وعذبة وطازجة، وتعبّر كثيرا عن كل ما يدور فى صدور الفلاحين الذين صاغوا وقائع الموال، دون الالتزام بالوقائع الحرفية للواقعة، ليبقى الموال خالدا بين المصريين، وكاشفا عن أعمق مشاعرهم فى مثل هذه الملمات التى لا تمر دون التعليق الفنى اللائق بها.