في شهر إبريل عام 1987، وفي اليوم الأول منه رحل عن عالمنا الشاعر عبدالرحمن الخميسي، وربما لا يعرف أبناء لحظاتنا التاريخية الحالية أنه كان واحدا من أكثر المدافعين عن ذاكرة الأمة، بل كان أحد شهود نكبة فلسطين عام 1948حيث عمل مذيعا في إذاعة الشرق الأدني في فلسطين ومقرها حيفا عام 1947 وبعد عام واحد حلت النكبة الكبري وفقدنا فلسطين. عبدالرحمن الخميسي كان أيضا واحدا من ظرفاء هذا الزمان وينتمي لجيل من فرسانه محمد عودة ومحمود السعدني ويوسف إدريس وكامل الشناوي ولويس عوض وغيرهم، وقد عرف بينهم باسم القديس بسبب مواقفه وممارساته في الحياة والأدب والسياسة. القديس - أو الخميسي- كتب عنه - الكثير- مثل أحمد بهجت وأحمد بهاء الدين وخيري شلبي وأصدر عنه يوسف الشريف كتابا كاملا عام 2001 . أعماله الأدبية الحقيقة ان الخميسي عاش حياته بالطول والعرض وكما يهوي ويحب وترك لنا سبع مجموعات شعرية هي «أشواق إنسان» 1958، «دموع ونيران» عام 1962، ديوان «الخميسي» عام 1967، «ديوان الحب» 1969، «إني أرفض»، «تاج الملكة تيتي شيري» 1979 وأخيرا «مصر الحب والثورة» 1980، واعتبره لويس عوض آخر الرومانسيين الكبار. أما في القصة القصيرة فقد ترك لنا ست مجموعات قصصية هي «صيحات الشعب» 1952، «رياح ونيران» 1952 أيضا «دماء لا تجف» 1956، «البهلوان المدهش» 1961، وأخيرا «أمنية وقصص أخري» 1964 . المبدع الشامل لأن القديس كان نوعا نادرا حقا من البشر فان انجازه لم يقتصر علي الإبداع الكتابي والعمل الصحفي فقط بل ألف وأخرج ووضع موسيقي أربعة أفلام سينمائية:- «الجزاء» 1956- «عائلات محترمة» 1968، «الحب والثمن» 1970، «زهرة البنفسج» 1972، وكل من شاهد فيلم «الأرض» للمخرج المتميز «يوسف شاهين» يتذكر دوره الذي لعبه باقتدار وهو دور الشيخ يوسف بقال القرية والذي كان أحد المشاركين في ثورة 1919 . المعروف انه اكتشف عشرات من كبار النجوم وقدمهم ووقف بجانبهم في مقدمة هؤلاء سعاد حسني ومحرم فؤاد وشمس البارودي وحسين الشربيني وغيرهم. في عام 1961 اتجه إلي تعريب الأوبريت حيث قدم «الأرملة الطروب» وقبل ذلك أسس فرقة مسرحية ومثل فيها كما كتب عشرات الأعمال النقدية وترجم مختارات من الشعر لدوركيتس ومختارات من القصص العالمية. سيرة ومسيرة علي الرغم من هذا الكم الهائل من الأعمال والانجازات لا تقل بل تفوق أهمية سيرة حياته، ولد الخميسي في 13 نوفمبر عام 1921 في المنصورة، كان والده فلاحا إلي جانب اشتغاله ببيع الأقمشة أحيانا، ووالدته حضرية من بورسعيد، لذلك سرعان ما دب الخلاف بينهما، وكانت النتيجة انفصالهما، وبعد فترة قام والده باختطافه ليعيش معه وليجبر والدته علي العودة للعيش معه التي ظل يحبها بعد طلاقهما وودع حياة الحضر. في الثامنة من عمره بدأ في كتابة المواويل الشعبية علي غرار المواويل التي كان يسمعا من مطربي القرية وما لبث أن كون فرقة مسرحية من الصبية وحاول الحصول علي مساعدة أثرياء القرية لبناء مسرح، ورفض هؤلاء الأثرياء فما كان من الخميسي إلا ان قام مع زملائه بفك خشب الاستراحات الملحقة بالمقابر واستخدامها في بناء المسرح، وكان قد أرسل عددا من قصائده إلي مجلة البلاغ المصورة وهو لا يزال طالبا في المرحلة الثانوية بالمنصورة، ففوجئ بمدرس اللغة العربية بالمدرسة يسأله ان كان هو عبدالرحمن الخميسي الذي نشرت له مجلة البلاغ قصيدة «أزهار». من المنصورة انتقل القديس الصغير إلي مدرسة القبة الثانوية حيث نشرت قصائده في مجلتي «الرسالة» و«الثقافة» وهما من كبريات المجلات الأدبية في ذلك الوقت وهو مازال في عامه الثامن عشر. هجر القرية بعد أن شعر أنه عبء علي أبيه في أثناء أزمة الثلاثينات المالية في أحد أيام صيف عام 1936 . مقهي الشعراء بدأ من المحطة الأولي هي بلدياته عازف الرق علي البار الذي ساعده في تسويق مواويله وأغانيه التي كان يبيعها له لكبار المؤلفين ويضعون اسماءهم عليها في هذه الفترة عاش الخميسي أيام تشرده وبطالته وجوعه في هذه الفترة، عمل في عدة مهن من بينها «كمساري» في شركة أتوبيس وأخذ يتردد علي مقهي الشعراء يكتب المنولوجات ويبيعها بقروش قليلة، وعندما طرد من الحجرة التي استأجرها بشارع محمد علي بسبب تراكم الإيجار عليه بدأ يقضي يومه علي نفس المقهي ويكتفي بغفوة من النوم! كانت له طبيعة الطائر الذي يعرف ان استقراره يجعله عرضة للموت وهكذا علي كثرة ما كتب لم يكن له مكتب يجلس إليه أو حجرة خاصة به لا في القاهرة ولا في بيروت ولا في بغداد ولا في باريس أو موسكو لم يكن يطيق ان تشبه اللحظة لحظة الأخري، كان العالم بداخله ومكتبه بداخله معرضا طيلة الوقت لضوء خاص من الخيالات يحول العالم إلي عالم يتمناه ولا يجده أبدا. أقدام البطش حياته اتسعت للسجن والهجرة والفصل والتشرد جعلته يقول العبارة التي ذكرها أحمد بهاء الدين حين كتب ينعيه في الأهرام كنت أقرأ له صفحة أسبوعية كاملة في جريدة «المصري» وأنا مازلت طالبا في المرحلة الثانوية، ومازلت أحفظ له كلمات قالها في مكتبي بصباح الخير سجلتها ولم يكتبها ولم تعلق بذهنه: «عشت أدافع عن قيثارتي فلم أعزف ألحاني» وفسرها بقوله إنه كان يجلس كعازف ليعزف لحنه علي قيثارته، هاجمته قوي البطش لتحطيم القيثارة فيحضنها ويجري بها بعيدا ليحميها، وما أن يجلس ثانية لينفرد بألحانه تدب أقدام البطش متجهة نحوه. جاء الخميسي إلي القاهرة عام 1937 لا يعرف أحدا فيها واشتغل مدرسا وعاملا في محل بقالة، ومحصلا في الترام ومصححاً في مطبعة، وعمل في جريدة «المصري لسان حال الوفد» وعلي صفحاتها قدم يوسف إدريس وعند رحيله كتب عنه يوسف إدريس في الأهرام ينعيه. كان الخميسي قويا عملاقا مقاتلا إلي ألف عام، وكان فمه مفتوحا علي آخره مستعدا لابتلاع الحياة كلها بكل مافيها من طعام وشراب وجمال قسمته الغربة إلي أربعة أركان الأرض مضي يتسلمه ركن ليرفضه ركن وهو قوي ومقاتل وطني عنيد، هذا الشاعر الذي قهرنا جميعاً. قد لاحظ الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي انه الوحيد الذي لم يهد كتبه لأحد من المسئولين قبل الثورة وكانت تلك عادة منتشرة بين كبار الكتاب بمن فيهم طه حسين. معتقل سياسي في عام 1953 وجد الخميسي نفسه معتقلا لأنه طالب في جريدة الكاتب بالحياة الديمقراطية وعودة الجيش إلي الثكنات ثم خرج فعمل في جريدة الجمهورية وأنشأ فرقة مسرحية وكتب للإذاعة قصة حسن ونعيمة التي اعتبرها أحمد هاشم الشريف روميو وجولييت الشعب المصري، ولم يشغل طوال سنوات الثورة منصبا رسميا واحدا. وعندما عرض عليه شعراوي جمعة وزير الداخلية الانضمام للتنظيم الطبيعي الذي أنشأته الحكومة كتنظيم سري- أعتذر ضاحكا بقوله: إنه لا يطيق كتمان الأسرار. ويذكره ابنه أحمد الخميسي المحرر بالأخبار ان والده ألح عليه قبيل وفاته بأيام أنه طلب يزرع منذ فترة عند قبره شجرة إذا رحل لأنه سيعود عصفورا وحينئذ سيكون بحاجة لغصن يقف فوقه ليطلق اغنياته من جديد. الخميسي وعبدالناصر قبل قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 بأسابيع قليلة كان الخميسي بجريدة المصري فوجئ برجل طويل القامة يرتدي قميصا وبنطلونا يسأله عن أحمد أبو الفتح لم يرد عليه الخميسي، لكن الرجل ألح في السؤال فصرخ فيه الخميسي بسبب انشغاله وكاد يطرده، ولم يكن ذلك الرجل سوي: «جمال عبدالناصر» الذي ذكر الخميسي فيما بعد بما فعله معه وسأله «يا تري يا أستاذ عبدالرحمن فاكرني». ودار بينهما حوار حضره الفنان زكريا الحجاوي ورواه الكاتب محمد عودة أثناء زيارة عبدالناصر لصحيفة المصري بعد قيام الثورة لتقديم الشكر لأحمد أبو الفتح بسبب مواقفه المؤيدة للضباط الأحرار قبل قيام الثورة وشأن الخميسي شأن مئات الصحفيين والفنانين اليساريين تعرض الخميسي للاعتقال عدة سنوات في الخمسينات، وبقدر ما كسب الخميسي من نقود بقدر ما أنفق واستدان، وكانت أسرته تعيش أجمل أيامها عندما يعلن الخميسي إفلاسه، لأن هذا معناه انهم سيأكلون الكباب حيث يأخذون ما يحتاجونه من محلات الكباب بالأجل وكانت أغلب المحلات ترحب بتعاملات الخميسي معها- أنه في أيام الرخاء كان يشتري منهم كميات ضخمة لأصدقائه وصحبته الذين كانوا يسهرون عنده في ميدان باب اللوق، وظل أحد أصحاب محلات الكباب دائنا للخميسي بمبلغ 500 جنيه سددها له وهو في موسكو منفاه الاختياري في أواخر السبعينات. هدية المحبوبة وفق ما روي ليوسف الشريف في كتابه الجميل عن الخميسي - بأن بليغ حمدي يطرق بابه وهو حزين ومهموم، وعندما علم منه ان اليوم عيد ميلاد الفنانة وردة ولم يكن بليغ قد تزوجها بعد- وكان مفلسا ويريد ان يشتري هدية للفنانة التي يحبها- وعلي الفور أجري الخميسي اتصالاته ليحجز استوديو في شركة صوت القاهرة وكانت أغنية «ما تزوقيني يا ماما» ولحنها بليغ في ساعات قليلة ثم اتصل الخميسي بالمغنية مها صبري وقرأ لها كلمات الأغنية، وطلب منها أن تسبقه إلي صوت القاهرة وحصل بليغ علي أجر 800 جنيه في نفس اليوم واستطاع ان يشتري الهدية التي تليق بمحبوبته. خلاف مع السادات علي مدي عدة عقود عرفت ليالي القاهرة وملاهيها الخميسي كعاشق لا يرتوي عاشق للفن والصحافة والمقالب والسخرية والنساء. مع ذلك كانت له مواقفه التي لا يحيد عنها، وبعد تولي السادات اختلف الخميسي معه وأدرك ان الأمور سوف تتغير، وكتب سلسلة مقالات رداً علي ما كان يكتبه محمد حسنين هيكل قبل حرب 1973 مباشرة حول ضرورة تحييد أمريكا وصعوبة خوض الحرب وربما استحالتها، لكن مقالات الخميسي تم منع نشرها وبعد طرد الخبراء السوفييت أيقن الخميسي ان كلا في سبيله للتغيير تماما، فقد حاصر المخبرون بيته ويدونون أرقام سيارات زائريه. قرر الخميسي ان يرحل في نهاية الأمر وأعد خطة محكمة حيث أشاع في الصحف انه بسبيل إخراج فيلم سينمائي في بيروت وانه سوف يشارك في إنتاجه واستقل سفينته بعد مماطلات من جانب وزارة الداخلية ثم وافق واصطحب ابنه معه. بعد أربعة شهور فقط من إقامته في بيروت، انتقل إلي بغداد التي كانت قد أصبحت معتقلا للمعارضة، عاش في بغداد في أعقاب معاهدة كامب ديفيد وتعرف عليه صدام حسين وأهداه سيارة مرسيدس - باعها وهو في الكويت وأرسل ثمنها لأسرته للمعيشة. اختلف بعد ذلك مع النظام البعثي وتعرض لمضايقات ومشكلات لا حصر لها. أخيرا كانت محطة المنفي الأخيرة في موسكو- حتي وفاته ونقل جثمانه من موسكو ليدفن في المنصورة كوصيته.