ليس سرًا ولا مفاجأة أن قطاعًا كبيرًا من الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر، حيث وصل في آخر بيان للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى 26% من تعداد السكان، لكن ما لا يعرفه كثيرون، وربما يمثل صدمة كبيرة لهم، أن هؤلاء يعيشون على الفضلات، أي أنهم يأكلون بقايا الطعام، أو إن تحرينا الدقة ما لا يهتم به الناس من الطعام. كما أن ملابسهم في أغلبها بقايا استيراد أو ما يُعرف ب«بالة»، تجدهم يصطفون فى طوابير طويلة بمجرد قدوم شحنة جديدة يبحثون فيها عن الجديد، وكذلك عن الأرخص.. «هياكل الدجاج وأرجلها» .. وجبة إجبارية بعد ارتفاع أسعار الدجاج 21 جنيه كمتوسط لسعر الكيلو، تركها الفقراء واعتمدوا على فضلاتها، فبعضهم اتجه إلى شراء الهياكل والأرجل. ويصل سعر كيلو الهياكل (جناح الدجاجة ومعه عظام الصدر بعد إخلاء اللحوم منها والرقبة)، إلى 9 جنيه للكيلو، بينما تراوح سعر كيلو الأرجل من 2 إلى 3 جنيهات للكيلو، وزاد الإقبال عليها بشكل كبير بعد رفع أسعار الدجاج. وهناك الأجنحة بمفردها دون الرقاب والهيكل العظمى، إلا أن سعرها مرتفع عن باقى الفضلات، ليصل متوسط سعر الكيلو إلى 16 جنيهًا، وهى بديل أيضا للبعض عن لحوم الدجاج. سيد عبد الراضي، «فرارجي» قال، ل«التحرير»، إن الهياكل بديل فعلي عن لحوم الدجاج، وذلك ليس بجديد، فالمواطنون بالفعل باتوا لا يستطيعون تحمل أي غلاء، مؤكدًا أن الإقبال على الدجاج قل بشكل كبير في الآونة الأخيرة وأن المواطنون يطلبون الهياكل. وأشار «عبد الراضب» إلى أن هذا يسبب له مشكلة أيضًا؛ لنفاد الكمية مع ثبات كميات اللحوم، قائلاً : «أشترى 4 أقفاص فراخ بيفضلوا أسبوع مايخلصوش، الناس ربطت على بطنها وبطلت تشتري الحالة دي أول مرة نوصل لها، فيه غلابة كتير بطلوا ياكلوا فراخ وبيكتفوا بالبقايا لعمل الشوربة والطبخ بها دون النظر إلى طبيعة ما يأكلونه»، لافتا إلى أن تجارة لحوم الدجاج تعاني من الكساد، وبعض المحال تم إغلاقها لقلة الإقبال. «باجيب الهياكل أعمل منها شوربة وأفرح الأولاد بعد أسعار الفراخ ما ولعت»، تقول فايزة علي، سيدة أربعينية شاحبة الوجه كانت تقف أمام أحد محال الدواجن، بنبرة أسى كبيرة، مضيفة:« الأسعار ارتفعت لدرجة بات المواطن لا يتحملها، فالدجاج ارتفع سعره على مدار الأسبوعين الماضيين، لذا اضطرت هى وغيرها من المواطنين الفقراء إلى شراء الهياكل والأرجل في بعض الأحيان ليطبخوا بها ويستخدموا شوربتها ويطعموا أطفالهم». وتابعت الأم: «لأزمة باتت كبيرة لا تُطاق، فالدواجن كانت ملاذ المواطن بعد رفع سعر اللحوم، وبعد ارتفاع سعرها أيضًا سيضطر المواطنون إلى اللجوء إلى بقاياها للتعايش مع الأمر الواقع». رجب عبد الرحمن، فرارجي، يقول : «الإقبال بات قليلاً على الدواجن .. الهياكل (بتخلص بدرى بدرى)، حيث أن المواطنين يرون أن سعرها أقل وتفي بالغرض، لذا فالإقبال عليها كبير». أما عن أرجل الدواجن فقد أكد أنه لا يبيعها، لكن هناك من يأتي إليه ويقول إنه يأخذها للكلاب، فيعطيها له بلا ثمن قائلًا: «أنا بابقى عارف إن اللى بييجوا ياخدوا الأرجل بيكونوا عايزين ياكلوها، وباديها لهم بدون ثمن رأفة بحالهم، الناس حالتها بقت تصعب على الكافر، ومابقوش لاقيين ياكلوا».
اللحمة.. حلم بعيد المنال
ولجأ آخرون إلى «عفشة المواشي» أو تفصيلاً «الفشة والكرشة والممبار والطحال وغيرها من أحشاء الماشية»، التي باتت البديل عن اللحم الأحمر الذي وصل سعر الكيلو منه إلى 110 جنيه. محمد عبد المعطي، موظف، قال: «مابقيناش قادرين نشتري لحمة هنعمل إيه، على الأقل بقينا بنجيب الأحشاء دي يومين تلاتة في الشهر علشان عيالنا وحتى العفشة غلوها علينا»، مضيفًا: «من يرفع الأسعار لا يلتفت إلى حال المواطن البسيط الذي لا حول له ولا قوة، ويضطر إلى تحمل الغلاء، بل ربما يتعايش معه عن طريق شراء الفضلات مثلنا (إحنا خلاص مابقيناش عارفين نعمل إيه ولا نأكل عيالنا ولا إيه)». وعن أسعار «العفشة» فقد وصل سعر كيلو «الكرشة» إلى 25 جنيه، و«الفشة» 30، و«الممبار» 35، وأرجل الماشية الواحدة ب40 جنيه، ولحمة الرأس الكيلو ب40 جنيهًا.
اللحوم المستوردة .. حل مؤقت
فيما لدأ آخرون إلى اللحوم المجمدة «المستوردة»، التي لا تجعلهم يلجؤون فقط إلى فضلات الماشية، بل إنهم يشترون اللحوم المجمدة الأقل في السعر، والشبيهة بغيرها من اللحوم المحلية مرتفعة السعر. وتتراوح أسعار اللحم المستورد من 30 إلى 50 جنيهًا للكيلو، أما باقي المجمدات فقد لاقت أيضًا رواجًا؛ لانخفاض أسعارها، حيث وصل سعر كيلو «السجق البلدي» إلى 25 جنيهًا للكيلو، و«السوسيس» إلى 20 جنيهًا للكيلو، و«الكبدة» إلى 25 جنيهًا للكيلو، و«الكفتة» إلى 30 جنيهًا، و «اللحم المفروم» إلى 30 جنيهًا. سالم رجب، أحد تجار اللحوم المجمدة، قال إن الشهرين الماضيين شهدت المجمدات واللحوم المستوردة إقبالاً كبيرًا على عكس الفترة الماضية، فقد كان المواطن يأنف من شراء اللحوم المستوردة مبديًا تخوفاته منها، إلا أن الشهرين الماضيين شهدا حالة من الرواج منقطعة النظير، مؤكدًا أن هذا ناتج عن ارتفاع أسعار اللحوم البلدي.
«الوكالة».. مول الفقراء يذهب الفقراء إلى منطقة «الوكالة»، مع اقتراب المناسبات؛ لاقتناء بقايا الاستيراد أو تلك المستعملة من قبل في الدول الأجنبية التي يتم تهريبها إلى مصر على اعتبار إنها مخلفات، ثم تأتي إلى أرض المحروسة عبر مستوردين يدخلونها المغسلة، ثم يتم كيها وتعلق للبيع. مرزوق عبده، أحد الباعة الجائلين بسوق «الترجمان»، يقول «تلك الملابس يطلق عليها (البالة) أي (زبالة) الدول الأوروبية، فهى ملابس مستخدمة، وبعضها مقطع ومرقع وهالك، لكن بعضها يصلح للبس مرات أخرى، فالأجانب استخدامهم خفيف، ويغيرون في ملابسهم بعد وقت قصير، لذا فملابسهم صالحة للاستعمال أكثر من مرة»، لافتًا إلى أن الإقبال على الملابس المستعملة زاد خلال العامين الماضيين، ولم يعد قاصرًا على فصل معين، خاصة الأعياد التي تشهد إقبالاً كبيرًا من البسطاء ؛ لشراء احتياجاتهم من الملابس المستعملة. واعتبر «عبده» الوضع الاجتماعى والاقتصادى العامل الأكبر في هذا الرواج للملابس المستعملة، قائلا: «أنا باحل أزمة اللبس وباساعد الفقرا علشان يلبسوا حلو لبس مستورد زى ولاد الذوات، صحيح هو مستعمل بس بيقضي الغرض، وبيسترهم، أحسن من مافيش، والناس غلابة ومحتاجة أي مساعدة علشان كده إحنا بنخدمهم وبنقوم بعمل وطني». فوزية عبد الرحمن، التقيناها خلال جولتنا ب «الوكالة»: «آتي كل شهر لأشتري ماينقص أبنائي من ملابس، فسعر القطعة يصل في بعض الأحيان إلى 5 جنيهات»، وهذا يوفر لها الكثير فتقول :«أنا موظفة على قدي في الشؤون الاجتماعية، ومش معايا أشترى لولادي جديد، فباحاول أجيب لهم بقايا الاستيراد، بتكون حلوة وشبه الجديدة، وبتقضى الغرض، والحمد لله ربنا ساترها معانا هنعمل إيه، بنحاول نعيش».
الأسواق الشعبية.. تكسب
هناك أماكن محددة وأسواق بعينها يلجأ إليها الفقراء، وعلى رأسها أسواق «العتبة» و «الموسكي» و«حمام التلات» و«حارة اليهود»، حيث البضائع المهربة التي تُباع بأسعار أقرب إلى الجملة لتناسب تلك الشريحة. محمد مسلم، أحد التجار بسوق العتبة، يقول ل «التحرير»: «إحنا غلابة قوي ومش معانا فلوس، وهنا الأسعار رخيصة علشان التجار كتير، فبالتالي مابنحملش المواطن تكاليف إضافية، وأغلب المنتجات التي تُباع هنا ملابس وأحذية، وأكتر من نص الشعب المصري بييجى يشتري من هنا، ومابنهربش بضاعة ولا حاجة دى بضاعة من بورسعيد بس مافيهاش تكاليف إضافية، واحنا بنكسب برضه مابنخسرش». هالة فوزى، عروس ووالدتها يتجولان بمنطقة «حمام التلات»، :«أتيتا لشراء المفروشات، فالأسعار متوسطة تناسب الجميع»، مشيرة إلى أن العروس تحتاج إلى شراء كثير من المقتنيات، لذا فدائما ما تأتيان إلى تلك المناطق لشراء كميات كبيرة بأسعار متوسطة. أطباء: 250 مرضًا بقيادة فيروس «سى» في انتظار الغلابة
إسلام محمد، دكتور صيدلى، يشير ل«التحرير»، إلى أن هناك عديدًا من البكتيريا التي تُسببها الأطعمة التي تباع فى الشارع، خصوصا «أرجل وأجنحة» الدواجن التي تُباع في الأسواق؛ حيث تُباع في الشارع دون رقابة من وزارة الصحة أو وزارة التموين، ولا أحد يعلم كيف ذُبحت هذه الفراخ ومن أين تأتي، موضحًا أن أبرز تلك البكتيريا: «الكامبيلوباكتر، السالمونيلا، الشيجلا، الليستيريا». وأضاف الصيدلي: «هناك أكثر من 250 مرضًا مختلفًا بسبب التسمم الغذائى، وأعراض هذه البكتيريا على الإنسان عبارة عن مغص شديد، وبعض حالات التسمم، والتي تتسبب فى ارتفاع درجات الحرارة لدى المريض، وإذا كان الشخص الذي تعرض لهذه البكتيريا كبيرًا في السن، فذلك قد يؤدي إلى العديد من المضاعفات، ويمكن أن تصل إلى حمى شوكية، وبالتالى إلى الوفاة، كذلك إذا كانت السيدة حامل فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى وفاة الجنين. الدكتور محمد عز العرب، استشاري الجهاز الهضمى والكبد بالمعهد القومى للكبد، قال ل«التحرير»، إن الأطعمة التي يتناولها الغلابة من أهم الملفات المغلقة من قبل الدولة، ولا بد من ضرورة المتابعة المستمرة من قبل وزارة الصحة والتموين وشن حملات على هذه الأسواق، لافتًا إلى أن أغلب الدواجن التي تُباع في الشارع دون رقابة من وزارة الصحة مشكوك فيها، خصوصا أن بقايا الدجاج، المُتمثلة في «الأجنحة والأرجل»، التي تُباع في الأسواق العشوائية بالشارع تؤدي إلى مشكلات عديدة خاصة بالجهاز الهضمي، كما إنها قد تكون فطريات وفيروسات تؤدي في النهاية إلى الإصابة بعديد من الأمراض. ونوه «عزب العرب» إلى أن أغلب هذه الفطريات تكون بكتيريا من شأنها الإضرار بالجهاز الهضمي، وتؤدي إلى أمراض الكبد وغيرها، مشيرًا إلى أن أغلب المصابين بفيروس «سى» أُصيبوا بالمرض بطرق مختلفة، ومنها الطعام الملوث. صلاح حماية، أحد العاملين بمديرية الشؤون الصحية لمكافحة ناقلات الأمراض، أشار ل«التحرير»، أن «أرجل وأجنحة الدجاج»، هى جزء من الدجاجة، وبالتالي لا تٌسبب أي أضرار، إذا كانت الدجاجة سليمة، لكن بيعها في الشوارع بالصورة التي نراها بها، مضر جدًا؛ حيث تتعرض للتلوث والأتربة والميكروبات، مشددًا على أن وزارة الصحة والتموين عليهما اتباع بعض الخطوات للحد من هذه الظاهرة.