ترتبك الإدارة الأمريكية فى التعامل مع الموقف فى مصر وفى المنطقة، لكنها تتعامل من موقف أساسى اتخذته بعد الثورة المصرية وهو الدعم الكامل لجماعة «الإخوان المسلمين»، كان المبرر الذى أبدته واشنطن أن «الجماعة» هى القادرة على ضبط الأوضاع بتنظيمها القوى، وأنها قدمت لواشنطن كل الضمانات المطلوبة، بدءًا من ضمان أمن إسرائيل والمحافظة على المعاهدة معها، وحتى الإبقاء على التسهيلات العسكرية للقوات الأمريكية والتحرك ضمن الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة. ربما فاجأ الموقف الأمريكى بعد الثورة الكثيرين، لكنه لم يفاجئ أحدًا ممن يعرفون التاريخ ويدركون أن واشنطن لا تسير إلا وراء مصالحها فقط. منذ الخمسينيات من القرن الماضى وواشنطن تراهن على استخدام الإعلام السياسى لمواجهة حركة القومية العربية بزعامة مصر، أقامت واشنطن «الحلف الإسلامى العسكرى»، الذى ضم -إلى جانب بعض الأنظمة العربية- تركيا وباكستان وإيران!! دعمت واشنطن الحملات ضد مصر وضد القومية العربية مستخدمة نفس الأساليب التى تُستخدم اليوم «العلمانية والكفر والإلحاد».. إلى آخر تلك المنظومة التى لم تعد تخدع أحدًا!! فى هذه الفترة تحولت جماعات تتاجر بالإسلام فى المنطقة العربية إلى جزء من الاستراتيجية الأمريكية ضد نضال الأمة العربية من أجل التحرر والتقدم والوحدة، شاهدنا الحملات الدعائية التى تعتبر الإصلاح الزراعى خروجًا على الشريعة والانحياز إلى الطبقات الفقيرة كفرًا وإلحادًا، وتأميم قناة السويس إخلالًا بالعهود والمواثيق، والحياد الإيجابى فى حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل انحيازًا إلى الشيوعية، والإصرار على استقلال الوطن العربى ووحدته تحديًا للأمريكان ومصالحهم التى يجب أن تعلو على كل مصلحة!! ولقد جرت مياه كثيرة فى نهر العلاقات بين أطراف الصراع بعد ذلك، وتغيرت الأوضاع كثيرًا بعد هزيمة 67 وبعد رحيل عبد الناصر، ثم فى مرحلة حرب أفغانستان، وإذا كانت الأحداث بعد ذلك قد أظهرت أن الوحش الذى رعته واشنطن واستخدمته فى أفغانستان وغيرها قد انقلب عليها، فقد ظل الود موصولا مع جماعات أخرى رأت واشنطن أن التحالف معها قد يفيدها فى التعامل مع من تضعهم فى خانة التشدد أو التطرف أو الإرهاب!! بعد ثورة يناير وثورات الربيع العربى، اختارت واشنطن التحالف مع «الإخوان» ووفرت لهذا التحالف الدعم السياسى المباشر منها، والدعم المالى من «الكفيل» القطرى، أعادت واشنطن الحديث عن إحياء مشروعاتها القديمة فى المنطقة باستخدام الإسلام السياسى فى شرق أوسط واسع يمتد من باكستانوأفغانستان حتى المغرب، تذوب فيه هوية الشعوب العربية، وتتحول فيه الدول العربية -بعد تقسيمها- إلى كيانات صغيرة تتصارع فيها الجماعات الإسلامية، وتقهر فيها المرأة، وتختفى فيها الحريات، وتحكمها الفاشية المتحالفة مع أمريكا باسم الإسلام المفترَى عليه!! تتخلى أمريكا عن كل ثرثرتها حول مبادئ الحرية والديمقراطية، ترسل سفيرتها السابقة فى باكستان لتكرر تجربة التحالف بين الجيش والفاشية الدينية فى مصر، تسعد بأنها ما زالت «الشريك الاستراتيجى» للحكم فى مصر كما كانت على مدى أربعين عاما، تتصور أن شعب مصر سوف يرضى بأن تنتهى ثورته إلى هذا المصير، يفاجئها أن الثورة تجدد نفسها، وأنها ترفض الاستبداد ولو ارتدى ثوب الدين، لا تفهم أن معنى الثورة عند المصريين يبدأ من الاستقلال الوطنى، ولا ينتهى إلا بتحقيق العدل والديمقراطية والمساواة. من حق الإدارة الأمريكية بالطبع أن تتخذ الموقف الذى تراه يخدم مصالحها، لكن الثورة ستمضى فى طريقها وستنتصر فى النهاية، واشنطن حمت الاستبداد لعقود طويلة ثم استطاعت أن تخلى مسؤوليتها بعد الثورة، هذه المرة يختلف الموقف.. لن تسمح مصر الثورة باستبداد جديد، ولن تتسامح مع الذين يمنحونه الدعم والتأييد!!