لا يبدو أن حالة البرود الشديدة التي تمر بها العلاقات الأمريكية–الباكستانية خلال الأشهر الماضية على موعد قريب مع انفراجة؛ بل يمكن التأكيد على أن العكس هو الصحيح، فعلاقات البلدين الحليفين في الحرب على ما يسمى الإرهاب لم تشهد تبادلًا للانتقادات المتتالية بمثل هذه الشراسة خلال أصعب الأزمات التي مرت بها علاقات البلدين مثلما يحدث خلال الفترة الماضية، فواشنطن والتي دأبت دائمًا على اللجوء للقنوات الدبلوماسية لتسوية أي أزمة تطرأ على علاقاتها مع إسلام آباد، ولم تفضل يومًا توجيه انتقادات لاذعة كما حدث خلال الأسابيع الماضية على لسان الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزير دفاعه وليم بانيتا ورئيس أركان القوات المشتركة مايك مولين، والذي اتهم باكستان صراحة بتصدير الإرهاب لأفغانستان، عقب الهجوم على السفارة الأمريكيةبكابول ومقتل برهان الدين رباني. شبكة حقاني بل لم يجد المسئولون الأمريكيون أي حرج في اتهام المخابرات العسكرية الباكستانية بتبني سياسات معادية للتحالف الدولي في أفغانستان، حيث انتقدت استمرار دعم شبكة جلال الدين حقاني في أفغانستان، المتورطة في توجيه ضربات قاسية للقوات الأمريكية، فضلًا عن التلميح بوجود تواطؤ من قبل جهازها الأمني الأرفع مع طالبان باكستان، التي تعد الداعم الأهم لنظيرتها الأفغانية، فضلًا عن اتهامها بعرقلة جهود تحقيق السلام في أفغانستان، وصولًا لتلويح باستمرار واشنطن في توجيه قصف لأهداف قد تراها ضرورية لحماية قواتها هناك، وهو أمر أزعج بشدة الجيش الباكستاني الذي هدد بعرقلة أي عملية عسكرية في منطقة القبائل، رافضًا بشدة الاتهامات الأمريكية الموجهة إليه. لهجة حادة اتهامات المسئولين الأمريكيين المتتالية لم تمرّ مرور الكرام، حيث رد أكثر من مسئول باكستاني على هذه التصريحات بشكل حاد، عكسته الانتقادات التي وجهتها وزيرة الخارجية الباكستانية حنا رباني كهر، في أكثر من سياق، بأن واشنطن مهددة بفقدان حليف مهم في حالة استمرارها في توجيه اتهامات بدون دليل، في إشارة واضحة إلى بلادها، بل وتنافس المسئولون الباكستانيون في إطلاق تصريحات متشددة ضد واشنطن، عززها الرئيس زرداري، الذي دعا لوضع قواعد جديدة للاشتباك، حتى لا تستمر متاعب باكستان وتهديدات رئيس وزرائه سيد رضا جيلاني بأن باكستان لن تخضع للضغوط والإملاءات الأمريكية. غضب شعبي الحدة الباكستانية في الرد على الاتهامات الأمريكية تُظهر عزم باكستان، ولو بشكل متدرج، على الخروج من بيت الطاعة الأمريكي، خصوصًا أن التحالف مع واشنطن والصمت حيال عملياتها في مناطق القبائل، ورغم ما خلفه على إسلام آباد من دعم اقتصادي وعسكري تحتاجه البلاد بشدة، إلا أن تداعياته السلبية على باكستان تجاوزت كل الحدود المقبولة، حيث أججت الغضب الشعبي على الحكومة، وقللت من هيبة الجيش الباكستاني أمام الرأي العام والمعارضة الإسلامية، بل ووضعت سيادة البلاد على المحك، خصوصًا بعد قيام قوات خاصة أمريكية بتصفية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في أحد ضواحي العاصمة إسلام آباد دون إبلاغ السلطات هناك. ومن البديهي الإشارة إلى أن هذه العملية قد خلفت جرحًا غائرًا في الجسد الباكستاني، وبددت الثقة بشكل كبير بين الحليفين الأبرز في الحرب على الإرهاب، بل ودفعت إسلام آباد لوضع مصالحها الاستراتيجية في مقدمة أولوياتها، دون إيلاء واشنطن نفس الاهتمام السابق، لاسيما أن واشنطن لا تكترث بالغضب الباكستاني على العمليات العسكرية على حدودها الأفغانية، أو حيال التمدد الهندي داخل جارتها المضطربة، بل إنها أمعنت في إهمالها لردود الفعل الباكستانية الحانقة على تجاهل دورها في جهود المصالحة الدائرة في أفغانستان. مصالح استراتيجية وتدرك باكستان أن واشنطن قد حسمت خياراتها بسحب قواتها من أفغانستان عام 2014 دون أي بوادر على قرب تحقيق مصالحة أفغانية تؤمِّن مصالح إسلام آباد، أو تؤشر لتشكيل حكومة من شخصيات أفغانية تؤمن بضرورة وجود علاقة استراتيجية بين الجارتين، وهو موقف أمريكي دفع باكستان باتجاه توثيق صلاتها مع القوى النافذة في المجتمع الأفغاني، ومنها حركة طالبان وشبكة حقاني والحزب الإسلامي بزعامة قلب الدين حكمتيار، إدراكًا منها بأن الحفاظ على تحالفاتها التقليدية هو الكفيل بتأمين مصالحها في هذا البلد المضطرب. مطرقة وسندان لذا، فمن المرجح أن باكستان لم تعد مهتمة بالحفاظ على تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن مثلما كان سائدًا خلال حكم برفيز مشرف والسنوات الأولى لوصول حزب بناظير بوتي للسلطة، إلا بالقدر الذي يحافظ على مصالحها، ويضمن عدم وقوعها بين مطرقة وجود حكومة موالية للهند في أفغانستان وبنجلاديش وسندان المواقف الأمريكية المعادية، مما يضعف بشدة من مساحة المناورة المتاحة أمامها، وهي تطورات حدت بها لإجراء مراجعة لمصالحها الاستراتيجية، في وقت تحاصرها فيه التحديات من كل حدب وصوب. ولا شك أن مثل هذه السياسات قد أغضبت واشنطن بشدة، بل حدت برموز إدارة اوباما للتخلي عن كل قواعد البروتوكول في خلافاتها مع إسلام آباد، وتوجيه انتقادات شرسة لنهجها في الحرب على الإرهاب، عقابًا لها على صلاتها المستمرة مع المناوئين لمصالح العم سام في أفغانستان، ولكن عددًا من المراقبين يرون أن توتر علاقات الحليفين الاستراتيجيين لا يعود لتصاعد الهجمات ضد القوات الغربية في كابول فحسب؛ بل إن واشنطن لا تخفي حنقها الشديد من التقارب الشديد والملحوظ في علاقات باكستان والصين، وهي العلاقات التي شهدت تصاعدًا مطردًا كمًّا ونوعًا خلال الفترة الأخيرة. ويبدو أن باكستان قد أدركت أن التحالف مع الصين يمكن أن يشكل بديلًا لتدهور علاقاتها مع واشنطن، أو ورقة في يديها لإجبار إدارة اوباما على عدم المضي قدمًا في اتخاذ أي إجراءات عقابية حيالها، سواء في الملف الأفغاني أو فيما يتعلق بالمعونات الاقتصادية والعسكرية، التي تشكل عمودًا فقريًا للاقتصاد الأفغاني المتداعي، فهي تدرك أن تضرر علاقاتها مع واشنطن قد تكون له تداعيات خطيرة، قد لا تستطيع تحملها، وهو ما دفعها لتبني سياسات تبدو عدائية تجاه واشنطن، إلا أنها في الوقت نفسه تمثل إغراءً لواشنطن لضبط سلوكها تجاهها، في ضوء ما تقدمه من دعم للمصالح الأمريكية في هذه البقعة الحيوية في العالم. طابور خامس ولا يجد أي مراقب صعوبةً في تفسير الموقف الباكستاني في ظل تسرب تقارير عن تبني واشنطن عددًا من السياسات المعادية لها؛ فاستمرار واشنطن في قصف المناطق الحدودية بين أفغانستانوباكستان ينبئ بالرغبة في نقل الحرب على باكستان، فضلًا عن أن واشنطن لم تخف نجاحها خلال السنوات الأخيرة في إقامة لوبي ضغط محلي أو طابور خامس باكستاني قادر عبر نفوذه على لجم أي اتجاهات معادية للمصالح الأمريكية، وهي ورقة تستطيع واشنطن إشهارها في أي وقت للجم مواقف إسلام آباد. تسوية مقبولة أوراق الحليفين المشْهرة في وجه كل منهما للآخر، وقدرة كل طرف على إثارة المتاعب للآخر، ترجح إمكانية توصل البلدين لصيغة وسط تحفظ ماء الوجه لكل منهما، وتحافظ في الوقت نفسه على علاقات البلدين المميزة، وتدفعهما لعدم المضي قدمًا في أجواء التوتر لآخر الشوط، باعتبار أن هذا التوتر سيضر بشدة بمصالحهما، بل وقد يقود علاقاتهما لمرحلة توتر تاريخي، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه بشدة: هل يستطيع البلدان تحمل تبعات هذه المراحل المتقدمة من التوتر؟ وما إمكانية استغناء أي منهما عن الآخر؟ التنين الصيني والإجابة هنا أن باكستان لا تستطيع أن تمر في شوط التوتر مع الولاياتالمتحدة إلى محطته الأخيرة، أو تحمل خسارة حليف استراتيجي واقتصادي بحجم واشنطن، خصوصًا أن الهند تتوق لهذا اليوم الذي تُنفض فيه أواصر التحالف الباكستاني مع الأمريكان، لذا سيسعى لتطويق التوتر وإبقائه في الحد المقبول، وهو ما يتكرر بشكل كربوني مع واشنطن، التي تبدو حريصة كذلك على عدم إعطاء الفرصة لباكستان لمغادرة بيت الطاعة الأمريكي، خصوصًا أن هذا الأمر يؤشر لوضع غير محتمل لقواتها في أفغانستان، بل ويطيح بأي احتمالات لتحقيق النصر على طالبان أو تحجيمها، وهو ما ظهر جليًّا في تشديد مسئولين أمريكيين على عدم المساس بمعدلات الدعم الأمريكي لباكستان، حتى لا يسمح لها بالارتماء في أحضان التنين الصيني، وهو ما سيجبر واشنطن على التوقف عن مهاجمة باكستان، والبحث عن تسوية قريبة للخلافات معها، تبقي على بقايا تحالف استراتيجي استمر لعقود. المصدر: الإسلام اليوم