حوار: ياسمين الجيوشي تم نشره في عدد التحرير الصادر 11 نوفمبر 2012 للمرة الثانية، اتجهت التحرير إلى جبل الحلال، جبل سيناء الشهير، الذي ربما أصبح أكثر شهرة من جبل الطور نفسه، حيث كلم الله عليه نبيه موسى. المرة الأولى لنا في جبل الحلال كانت عقب حادث رفح، رمضان الماضي، وبعد أن قال الجيش أنه بصدد القيام بعمليات تمشيط واسعة في سيناء وبالأخص في جبل الحلال الذي يضم عناصر إرهابية مسلحة، وتلك كانت المرة الثانية. لكن تلك المرة كانت الرحلة أكثر صعوبة، فسيناء تشهد حاليا غيابا أمنيا ملحوظا، إن لم يكن مقصودا، وتلك المرة كنا في طريقنا للحوار مع جيرمي أبو المسوح، الشخصية الأشهر في شمال سيناء، والمطلوب الأولى لدى الأجهزة الأمنية، أو كما يطلق عليه " أسطورة جبل الحلال" إذ أنه حاصل على خمس أحكام غيابية تصل إلى 125 سنة. جيرمي أبو المسوح ينتمي إلى قبيلة الترابين، أكبر قبيلة تقطن جبل الحلال، وكما قال لنا عنه أسد الترابين قبل توجهنا للحوار معه " جيرمي هو الجناح العسكري للترابين، هو وزارة الدفاع بالنسبة لنا". ذهبنا إلى بيت جيرمي الذي يحتضنه جبل الحلال، وتسمى المنطقة التي يسكن بها "وادي العمر" تبعد عن الحدود الإسرائيلية مسافة 3 كيلو مترات، استقبلنا بادئ الأمر رجل ممتلئ الجسم، يرتدي زيا بدويا قال لنا "اتفضلوا"، أدخلنا الرجل إلى صالة واسعة، تطل على مقابر جنود شهداء الجيش في حرب 67 كما قال لنا، أجلسنا وقدم لنا الشاي البدوي، وقال " جيرمي جايلكم الحين"، انتظرنا جيرمي إلى أن دخل الصالة رجلا في الثلاثين من عمره، يرتدي قميصا وبنطالا، ممشوق القوام وتعلو وجهه ابتسامة لم تفارقه طوال جلوسنا معه، قابلنا بابتسامة رائعة أذهبت عنا القلق الذي اعترانا طوال الطريق، خوفا من أي مفاجأة غير سارة، لأننا بأي حال لم نكن في نزهة، لكننا كنا في منطقة " مقطوعة". عرفت بالطبع أنه "جيرمي"، سلم بادئ الأمر على ابن قبيلته " مصطفى الترابين"، ثم سلم على فريق التحرير، وقدم لنا الشاي مرة أخرى. جلسنا وسألته بادئ الأمر مداعبة، هل جيرمي هو اسمك الحقيقي؟ فأومأ برأسه وقال نعم، فسألته وما معناه، فرد قائلا " الجيرم" في لغة أهل البادية تعني الجبل الكبير، ضاحكا " يعني أنا جبل كبير". شربنا شاي " الراكية" وبعد أن انتهينا منه قال لنا " تعالوا شوفوا مقابر جنود الجيش المصري اللي استشهدوا في حرب 67" خرجنا من الصالة الواسعة إلى الخارج، حيث الصحراء الأوسع، ثم استقر جيرمي فجأة، فسألته " أين هي مقابر جنود الجيش أنا لا أرى شيئا"، فأشار تحت أقدامنا " هنا". شعرت برعشة تجري في جسدي، فتحت أقدامنا يرقد شهداء قتلوا بدم بارد على يد الجيش الإسرائيلي، واكتشفنا أن المقابر ليست كالمقابر البارزة عن الأرض كما عهدناها ، إنما مقابر مستوية بالأرض تماما وكل مقبرة معلمة بصخرتين واحدة عند رأس الشهيد والأخرى عند قدمه، وقال لنا جيرمي " الدبابات الإسرائيلية كانت تسحق الجنود المصريين وهم أحياء، كما قال لنا آباؤنا". انتقلنا بعد ذلك وجلسنا على إحدى الصخور القريبة من جثث الشهداء، وأشار بيده عند مجموعة صخور أخرى قائلا " هناك مقابر تانية لشهداء ماتوا أيام الحرب". سألته هل تلك المنطقة مؤمنة بالنسبة لك، فرد قائلا وابتسامته المعهودة تملأ وجهه " محدش يقدر يقرب من هنا أنا كاشف المنطقة كلها"، ثم نظر إلي قائلا " وأنتم جايين في الطريق من بعيد عرفت من عيوني إن في عربية لونها كذا وراكب فيها أربعة أفراد،وسألوني أمان، فقولتلهم أمان". سألته : 125 سنة أحكاما غيابية، ماذا فعلت لكل هذا؟ فرد قائلا : الأحكام كلها بسبب عداوات بيني وبين الشرطة، وأحد ضباط الشرطة قال لي " إما تكون معانا وإما نحبسك"، ومن يرفض التعاون مع الشرطة إما أن تصدر ضده أحكاما غيابية أو يكون مطارد أو يسجن، وأنا إنسان حر، من قبيلة كبيرة، أرفض أن أكون مرشدا للداخلية ضد قومي وعشيرتي، وأي إنسان حر يرفض أذية غيره وظلمه، لأن الله حرم الظلم على نفسه، ولو وجدت إنسانا غير مطمئن بالنسبة لنا أطرده من المنطقة، ثم لماذا أخدم الداخلية وهي التي تعامل بدو سيناء أحقر معاملة، لكن الشرطة لم تتركني وقام ضباط الداخلية بتلفيق التهم لي واحدة تلو الآخر، وصدرت ضدي أحكاما غيابية بالسجن في قضايا مخدرات وقتل ومقاومة سلطات، ورغم أن قضية القتل هذه جاء فيها أهالي القتيل أنفسهم وقالوا للشرطة إن جيرمي أبو المسوح لا يمكن أن يكون فعل هذا لأنه ليس بينا وبينه عداوات، إلا أن الشرطة أصرت على تلفيق التهمة لي"، تنهد جيرمي تنهيدة عميقة لكنها لم تخف ابتسامته وقال " عشان تعرفي إني مظلوم في قضية مخدرات اتلفقت لي في 2007، اسم الضابط اللي عمل معايا المحضر ميت من سنة 95، يعني دا دليل واضح جدا إن القضية متلفقة". بدأت الشمس في الذهاب تدريجيا، وبدأ جو الصحراء يتقلب وشعرنا بالبرد، فقال لنا جيرمي نرجع البيت، عدنا إلى الصالة الواسعة مرة أخرى، وجلسنا نتحاور معه. سألته التحرير : ما هي قصة السائحين الأمريكيين الذين اختطفتهما؟ فرد جيرمي : وسائل الإعلام أبرزت القضية بشكل خاطئ، أنا عمي رجل كبير في السن وقامت الشرطة بتلفيق قضية مخدرات له. قاطعته : هل كل القضايا ملفقة، يعني لماذا تقوم الشرطة بتلفيق القضايا لكم؟ فرد جيرمي : شرطة حبيب العادلي في سيناء، هي أسوأ ما يكون، وكانت تلفق القضايا للبدو لأنها تعاملهم أسوأ معاملة وأنا أعرف ضباط واحد اسمه رضا سويلم والآخر اسمه عصام مهنا كانا يقومان بنقل القضية من المتهم إلى أي شخص مقابل 50 ألف جنيه، وأعرف أيضا ضباط في الداخلية يقومون بتهريب المخدرات والسلاح، هناك أيضا ضباط شرطة كانوا يعملون لصالح الموساد يسلمون البدو في مقابل 500 دولار عن البدوي الواحد، لذلك هم يريدون القضاء علي نهائيا. التحرير : أكمل قصة السائحين الأمريكيين؟ فرد جيرمي : عمي هذا رجل كبير في السن كان مرشدا للجيش في حرب 73، وكان في زيارة لأقاربه في الإسكندرية وهو في طريق عودته قام أحد الضباط بوضع مخدرات له في " شنطة العربية" ورغم كبر سنه ومرضه وأقسم لي عمي أنه مظلوم، فقلت لضباط المخابرات هنا في سيناء عمي هيتسجن ظلم في حاجة معملهاش وأنا ممكن أعمل أي حاجة، فردوا علي جميعا اعمل اللي عايز تعمله. قام جيرمي بإشعال سيجارة ثم عاود الحديث : قمت بعدها بأخذ اثنين من السياح الأمريكان في رحلة سفاري لجبال سيناء في الوسط والجنوب، وهاتفت يومها ضابط مخابرات كبير وقلت له " أنا معايا سياح أمريكان بفسحهم بس ممكن دلوقتي أحسسهم إنهم مخطوفين، فرد علي قائلا " لا أرجوك بلاش" وبعدها بقليل هاتفني كمال الجنزوري الذي كان رئيسا للوزراء وقتها وقال لي " افرج عن السياح" فقلت له " أنا مش خاطفهم بس ممكن أحسسهم انهم مخطوفين وافرجوا عن عمي"، يعني استخدمت السياح الأمريكان كورقة ضغط والسياح فضلوا معايا 4 أيام عملت معاهم أحسن واجب وبعدين روحوا". التحرير : قلت في تصريح مسبق لك مع إحدى الوكالات الأجنبية أنك على استعداد أن تسلم نفسك للأجهزة الأمنية في حالة ضمن لك الرئيس مرسي محاكمة عادلة؟ جيرمي : صحيح أنا قلت كدا، أنا مستعد أقدم نفسي للعدالة لأني واثق في براءتي ولأني مظلوم، بس بشرط تكون المحكمة عادلة، وبعدين الرئيس مرسي أفرج عن الإسلاميين، واللي كانوا متورطين في قضايا إرهاب وما أفرجش عن بدو سيناء اللي ظلمتهم داخلية حبيب العادلي، يعني هو الظلم هيفضل ورانا؟ ليه الدولة متعملش معانا مبادرة صلح وتمد ايدها واحنا نساعدها التحرير :هل كل قاطني جبل الحلال مظاليم بالفعل أم أن هناك خطرين على الأمن العام؟ جيرمي : لو في حد غريب عن هنا أو حسينا إنه مجرم او إرهابي، مش هنسيبه وهنبلغ عنه المخابرات"، على فكرة أنا مش هسيبه مش عشان خدمة للحكومة، أنا مشوفتش منها حاجة كويسة، بس عشان أمننا احنا"، صمت جيرمي ثم قال " عارفة إحنا هنا بنحب الجيش وممكن نساعده بس في ناس كتير هنا من كتر اللي شافته من الداخلية مش هتفرق بين جيش وشرطة وهتقول كلها في النهاية حكومة وممكن تعرف إن في مجرمين ومترضاش تساعد الجيش، عشانه في النهاية حكومة زي الشرطة، وهي دي مشكلة كبيرة الدولة مش قادرة تدركها. التحرير : ألم تر قوات الجيش هنا في منطقة جبل الحلال من قبل؟ جيرمي : لأ مفيش ، احنا هنا اللي بنأمن جبل الحلال مش الجيش، لأن الجيش ميحفظشي المكان دا زينا، احنا اتولدنا هنا وحافظين كل مدقات الجبل وكل حتة في الصحرا، ولو إسرائيل لا قدر الله دخلت سيناء، احنا خط الدفاع الأول لحماية مصر، ولو الدولة تمد ايدها لينا احنا البدو هنساعدها لأننا مصريين وبنحب أرضنا، بس الدولة دايما تعاملنا معاملة أقل بكتير جدا من أهل الوادي. التحرير : أين كنت أثناء الثورة؟ فرد قائلا : كنت أقوم بعمل لجان شعبية مع الأهل والعشيرة نظرا لغياب الشرطة تماما من مدن العريش والشيخ زويد ورفح، وكنت بودي أكل وماية لجنود الجيش على الحدود لأن الطرق كانت اتقطعت تماما وقتها ومكانش في زاد بيروحلهم، ثم إن الجنود دول هنا عشان يحموا أهل سيناء. التحرير : هل تربطك علاقة بالأجهزة الأمنية؟ جيرمي : أيوة أتواصل مع رجال في الأجهزة الأمنية، وأعرف كتير منهم في سيناء. التحرير : من برأيك المسئول عن الأعمال الإرهابية في سيناء والهجوم على جنود الجيش والشرطة؟ جيرمي : رأيي إن هجوم رفح وراه الموساد الإسرائيلي وتم تنفيذه بايد خونة، وأنا مشوفتش جماعات إرهابية متشددة هنا في سيناء بس ممكن يكونوا موجودين. حاورنا جيرمي عن الجانب الاجتماعي في حياته، عمله وحياته الخاصة زوجته وأولاده، فقال لنا أنه يعمل في المحاجر التي تدر عليه دخلا كبيرا، كما قال، كما أنه متزوج من 3 نساء وعنده خمس أبناء أكبرهم عمره سبع سنوات وأصغرهم عمره 4 سنوات. التحرير : هل يتلقي أبناؤك التعليم؟ جيرمي : عندي ولدين في مدرسة ابتدائي التحرير : وهل توجد مدرسة قريبة من هنا؟ فقال : في مدرسة بعيدة عن هنا حوالي 10 كيلو متر، بس المشكلة إن التلاميذ بتروح مش بتلاقي مدرسين عشان كدا أنا بجيب معلمين هنا في البيت عشان يعلموا ولادي في مقابل الفلوس. التحرير : هل حياة المطاردة أنهكتك؟ قام جيرمي بإشعال سيجارة أخرى وتنهد ثم قال : أنا تعبت ونفسي أعيش كأي إنسان عادي، أنزل المدينة وأمشي في الشوارع أسافر أي بلد برا، أنا دلوقتي عمري 36 سنة نفسي أحج وأزور الكعبة، طبعا دا صعب"، صمت برهة ثم قال " عارفة ابني الصغير عنده 4 سنين لو سألتيه الحكومة عايزة ايه من بابا تقولك عايزة تقتله، من كتر ما شافه لما الداخلية كانت بتهاجم البيت وتكسر كل حاجة تقابله، ومرة حطوا السلاح على راس ولادي، عايزاهم بعد كدا يقولوا ايه، أنا نفسي أعلم ولادي ويكونوا أحسن ناس لكن في مصر ابن الدكتور بيكون دكتور وابن المطارد بيكون مطارد"، عاد إلى صمته ثم قال " على فكرة في أمناء شرطة بيتصلوا علي ويقولولي أول ما الحملة تطلع عالبيت عندك هنبلغك بس مقابل 5 آلاف جنيه. انتهينا من الحوار مع جيرمي " أسطورة جبل الحلال" الذي أحسست في كلامه بمدى شعوره بالظلم هو ومن مثله من سكان البادية، الذين تتعامل بالفعل معهم الدولة معاملة غير آدمية، رسخها نظام مبارك الذي لم يحتويهم، وأشعرهم بأنهم خونة وعملاء، ولم تحاول الدولة احتضانهم يوما ما، رغم حبهم لوطنهم وأرضهم ورفضهم التخلي عنها، وربما سيظل الوضع هكذا. ودعنا جيرمي بعد أن حل علينا الليل في تلك الصحراء المخيفة والمهيبة، لكنه قام برفقتنا بسيارته نحو الخارج، حيث الطريق، وقال " المرة الجاية إن شاء الله أشوفكم بعد ما آخد البراءة" ولم تختف عنه ابتسامته أيضا.