في مقابر الامام الشافعي لفتت انتباهي سيدة تجلس وتشرب شيئا ذا لون مميز ذهبت اليها وسألتها عن اسمها؟ فقالت: الحاجة فتحية شعبان حجاج، سألتها عن سنها؟ ردت: 50 عاماً، وعن اولادها قالت: عندي اربع عيال بنتين وولدين، ثم توقفت عن الكلام وقالت: اوعي تكوني من التليفزيون او الصحافة، فقلت لها: و ما المانع؟ فأجابت: انا مش بحب بتوع التليفزون ولا الاعلام، حاولت الخروج من المأزق بادعاء أني باحثة جاءت لمعرفة من يستحقون مساكن بديلة، فقالت: واسيب القصر؟ فقالت: ايوه طبعاً لا جار يضايقك ولا يتكلم عليكي ولا يقولك وطي التليفزيون شوية، انا كده مستريحة قوي. قلت لها: إيه اللي بتشربيه ده؟ فقالت دي "سلامكا" أعشاب بنزرعها هنا في المقابر علشان علاج الامراض، لمشاهدة "القصر" من الداخل دخلت معي ابنتها سماح (30 عاما) سألتها عن ملاك هذا الحوش؟ فأجابت: إحنا مانعرفش حد من الملاك احنا الملاك.. أصل احنا اتولدنا هنا، وأجدادي كانوا عايشين هنا، بس بيقولوا ان الحوش ده كان بيتاع باشا كبير قوي، ومش عارفين مين هو. ذهبنا الي حوش آخر فخرجت لنا السيدة اعتماد عبد الحميد (65 عاما) قالت: انا هنا من أيام اجدادي، اتولدت هنا وكبرت في المقابر، وبصراحة العيشة هنا احسن من عيشة القصور، مبارك أهو كان عايش في قصر، ودلوقتي مرمي بين اربع حيطان.. راحة البال أهم من أي حاجة. سألتها عن ملاك الحوش؟ فأجابت: هما مين ملاك الحوش؟ احنا الملاك، احنا عايشين هنا من زمان، لا شوفنا ملاك ولا أي حد فكر ييجي هنا. وفي حوش آخر كانت تجلس عائلة صغيرة امام التليفزيون، جلسنا معهم وسألناهم عن ملاك الحوش؟ ميرفت سعيد مافيش حد بيملك الحوش ده احنا اتولدنا هنا انا واخواتي، ولما اتجوزت سكنت في شقة قانون جديد، لكن ماقدرتش علي الايجار، فجبت عيالي وجوزي وجينا هنا تاني، لا مالك يذلنا ولا يطالبنا بحاجة، واجابت شقيقتها انتصار الأم لعشرة ابناء: احنا عايشين في مكان محترم. المدافن هنا سكانها نالس محترمين ومتربيين، كفاية ان الاطفال بيتربوا وسط ميتين، لا بيتكلموا ولا بينطقوا، ولا بنخاف علي عيالنا من حاجة، بالعربي كده دي دولة ملهاش ريس فاسد زي مبارك، رئيسنا هو ربنا العادل، بنخاف منه وبنحبه ومش عاوزين غير كده. عبدالله محمد رزق (24 عاما) يقول: انا اتولدت هنا وامي وابويا اتولدوا هنا، وخلاص اخدنا علي العيشة هنا ومضي يقول: فيه احواش ماحدش يعرف عن ملاكها حاجة، وفي احواش ملاكها بييجوا يزوروها في الاعياد، ويدونا اللي فيه النصيب واحنا هنا بصراحة عايشين مرتاحين، لا فيه ظلم ولا فساد. اهالي المقابر لايتزوجون الا من نفس المنطقة، ولهم عاداتهم وتقاليدهم ايضا، فلابد من أن تسكن العروس في حوش ليس له ملاك، ربما كشرط يماثل لمبدأ الشقة التمليك ولابد من قيام أهل العريس بعمل دي جي لمدة ثلاثة ايام متواصلة. فهم يمارسون حياتهم هنا بشكل طبيعي ولا يشعرون بالخوف ولا القلق. في الإمام الشافعي.. دش وسيراميك وناس بتقول: "إحنا مرتاحين كده" غرف نوم قيمة وأجهزة كهربائية باهظة الثمن، في مقابر الإمام الشافعي، وهي أقدم المقابر التي عرف المصريون طريقا إلي العيش بها. ومن هؤلاء سيدة وشقيقتها وأبناؤهما يجلسون لمشاهدة الدش، وهم يضحكون بصوت عال، سألنا السيدة عن سبب اقامتها في المقابر رغم مظاهر الحياة العادية عندها؟ فقالت: إتولدنا هنا، ومش هانخرج من هنا، وإحنا مرتاحين قوي كده. تركناها وذهبنا إلي عائلة أخري، واستقبلتنا سيدة تدعي عائشة محمد، تعيش هي وأبناؤها وزوجها بمقبرة من غرفتين في غرفة نوم قيمة جداً، سألناها عن سبب عيشتها في المقابر، فقالت: مش بالفلوس، لو معانا فلوس الدنيا كلها، مش هانسيب المقابر، لأنها أصلنا، ومن نسي أصله نسي نفسه. فتحية حفظي تعيش مع والديها وزوجها وأبنائها، لديها بوتاجاز 5 شعلة ماركة عالمية، وثلاجة 14 قدم، والحوش الذي تعيش فيه مبلط بالسيراميك، وهي تقول إن تكاليف تجهيزه كانت توفر لهم شقة في مكان راق، لكنها تؤكد ما قدرش أعيش في مكان غير هنا، خلاص إحنا أخدنا علي هنا. في حوش آخر تعيش إبتسام السيد علي (خمسين عاما)، كانت ترتدي مصوغات ذهبية كثيرة قالت: إحنا هنا مرتاحين، لا مالك يطالبنا بإيجار، ولا جار يضايقني، وبصراحة كده إحنا مانعرفش نعيش بعيداً عن الحوش بتاعنا، بينما تقول جميلة السعيد: أنا اتولدت هنا، ولقيت أهلي كلهم هنا، يعني ماينفعش أعيش بعيداً عن أهلي، وجوزي من هنا، وكلنا عارفين بعض، ولا في بلطجة ولا كلام فارغ زي اللي موجود في الأحياء الراقية، وهنا ناس معاهم فلوس كتيرة قوي، ومش بيفكروا يسيبوا هنا خالص. عندما يصبح عنوانك في بطاقة الرقم القومي "قرافة" وداد: الدكتور رفض إجراء عملية جراحية لي عندما قرأ البطاقة وقال: "ازاي أعمل عملية لواحدة ميتة"! محمود: لما حد بيشوف بطاقتي ويقرأ العنوان يسخر مني ويقول لي: "اتفضل يا مرحوم" صباح إمام عاشور إمام.. العنوان قرافة عبد القادر. سماح سيد محمد.. العنوان: قرافة عزت عرابي. سناء السيد ابراهيم.. العنوان: مقابر الامام الشافعي زينب حسن.. العنوان: قرافة حفيظ باشا هؤلاء السيدات ولدن في المقابر ولم يعرفن وطنا غيرها.. بل ان الحكومة نفسها قامت باستخراج شهادات ميلاد وبطاقات رقم قومي لهؤلاء مسجل فيها عنوان قرافات ومدافن، في تأكيد منها علي أن هذه الحياة علي حافة الموت هي قدرهم الابدي. الحاج محمود محمد "65 عاما" يقول: لما بروح أي مكان، والناس تقرأ البطاقة، بيضحكوا علينا ويسخرون منا، ويفضلوا يقولولي "اتفضل يا مرحوم" ولد استطيع أن أتفوه بكلمة واتركهم وامشي، وتقول وداد السيد عابد: أنا رحت المستشفي أعمل عملية، ولما الدكتور شاف البطاقة فضل يضحك ويقول لي: انتي ميتة وجاية تعملي عملية، دا انتي بتفولي علي نفسك"، فقلت له: قدري يا دكتور، فقال: قدرك انتي بس مش قدري أنا أعمل عملية لواحدة ميتة ازاي، وتركني ومشي. وتقول فاطمة محمود عباس: انا طالبة في الجامعة ولما رحت اقدم في التنسيق، كان واقف مجموعة من الطلبة بجواري لملء الاستمارات وكانوا لطاف جداً معايا، ولما قرأوا عنواني اخذوا يضحكوا عليا، ثم تركوني وذهبوا بينما يقول حسام مجدي عباس "19 عاما" كنت فرحان لما طلعت البطاقة بس كل ما حد يشوف بطاقتي يستهزأ بي، فقررت أمشي من غير بطاقة. الحاج محروس: المقابر خرّجت دكاترة ومهندسين ونوابا كمان سعيد: أنا لحام وافتخر بحياتي داخل المقابر وابني ليس لديه عقدة منذ ذلك عندما تعيش قريبا من الموت تدرك اكثر قيمة الحياة.. لذا يهتم كثير من سكان المقابر - علي غير ما نظن - بتعليم ابنائهم ومستقبلهم، والحاقهم بالمدارس والجامعات حيث تخرج الكثير من هؤلاء اطباء ومهندسين وعلماء أيضا. نعيمة حسن تقول: بنتي سوزان دكتورة في الجامعة وبنتي الثانية مدرسة، وابني طالب في الثانوية العامة، واتولدوا هنا واتربوا هنا، ومن وقت للتاني بيجوا يزورونا، لأنهم اتجوزوا واحدة اتجوزت في مدينة نصر والتانية في جسر السويس. وتقول سمية صابر: أنا حاصلة علي معهد كمبيوتر، وجوزي مش متعلم وعايشة هنا لأساعد زوجي في دفن الموتي، حيث يعمل "تربي" تركناها وذهبنا الي الحاج محروس النجدي لنسأله عن خريجي المقابر؟ فأجاب: مش اطباء ومهندسين فقط، دا كمان اعضاء مجلس شعب وضباط ايضاً، ويقومون من وقت الي آخر بزيارة الاحواش هنا، كما يقومون بنحر الاضحية هنا، ويتبرعون ويعطون الفقراء، ولا ينكرون ابداً أنهم خرجوا من هذه الأحواش ومن المقابر، بل يفتخرون. في حين يقول سعيد محمد: أنا محامي وساكن هنا ومكتبي هنا أيضاً وافتخر بكوني ولدت وعشت في المقابر، وعندما يمتنع ابني عن المذاكرة أذكره واقول: انا كنت اذاكر علي لمبة الجاز، ووصلت لهدفي وحققت حلمي، واصبحت محام، ومخطئ من يقول: إن الاطفال الذين يخرجون من جو المقابر، تصبح لديهم عقد كثيرة، بالعكس اولادنا يفتخرون بهذا الشرف ولا ينكرون فضل المقابر عليهم، لأنهم لولا المقابر لما ظلوا احياء في هذا البلد. سكان حوش الباشا: نرفض استقبال مبارك ميتاً لأنه لم يشعر بنا حيا مديحة: عندما طالبنا الحكومة بشقق قالوا لنا "مش عاجبكم المقابر طب هنسحبها منكم" أحمد: قمنا بتشكيل لجان شعبية لحماية المقابر من البلطجية الهاربين وربنا بيسترها معانا قامت الثورة في كل مكان في مصر، في الأحياء الشعبية والراقية وفي المقابر أيضا، حيث نظم سكان المقابر ثورة ضد النظام، وقرروا، إذا مات مبارك، فانهم لا يوافقون علي دفنه في أي مقبرة من مقابر حوش الباشا، بمنشأة ناصر، حيث أنهم عاصروا الفساد، وعاشوا الظلم في عهده ,وحرمهم هذا النظام من حق العيش كمواطنين علي قيد الحياة حيث تقدموا بأوراق لطلب شقق ،ولكن الحكومة، لم تستمع لهم، وعاملتهم كمواطنين في حكم العدم. تقول مديحة ممدوح سعد (35 عاما): إحنا عملنا ثورة هنا، علشان نقضي علي النظام الفاسد، ونمشي مبارك والحاشية الفاسدة بتاعته، لأن اللي شوفناه في عهده كان صعبا فإحساس صعب لما تعيشي وتموتي في نفس المكان، تبقي عايشة في قبر عارفة إنك هاتندفني فيه، ونروح نقدم علي شقق، يقولولنا "تعالوا السنة الجاية" وبعدها نلاقيهم باعوا الأراضي الفاضية، اللي كنا حطين آمالنا علي إنهم يبنوا عليها مساكن لينا، ونروح نسأل تاني يقولولنا "إنتوا مش عاجبكم المقابر اللي عايشين فيها.. طب والله نسحبها منكم لو طالبتوا بشقق مرة تانية" فنخاف ونمشي، ليرمونا في الشارع إحنا وعيالنا. ويقول سيد سيد حفني (36عاماً): بصراحة شباب التحرير جددوا فينا الأمل، وإدونا الشجاعة إننا نتكلم ونقول لأ، وعلي فكرة أنا وشوية شباب من المنطقة روحنا عند قصر العروبة، وكنا عاوزين ندخل، بس الجيش منعنا علشان مبارك ماحسش بينا وهو عايش ويمكن يحس بينا وهو ميت. أحمد محمد (29عاماً) يلتقط طرف الحديث: إحنا كنا بنحرس أمهاتنا وأخواتنا و قبورنا أثناء الثورة، وضبطنا بلطجية كثيرين كانوا يحاولون الإختباء في المقابر، ولكننا بفضل الله استطعنا السيطرة علي الموقف، بينما تقول سناء السيد إبراهيم: وضعنا زجاجا علي السور بتاع المقابر، علشان الحرامية والبلطجية لما بيعملوا أي كارثة، بييجوا يستخبوا هنا، بس ربنا بيسترها معانا، والرجالة بيمسكوهم، ودلوقتي مفيش حد يجرؤ ييجي المقابر .