رغم أن الناقد الكبير الراحل فؤاد دوارة كان حريصا على جمع المجهول والمستبعد والمهجور لكتّاب وأعلام فى الأدب والثقافة والفن، فإن كثيرا من تراثه هو نفسه ما زال مطويا فى صحف ومجلات الأمس القريب والبعيد، وهو الذى كان له فضل إنقاذ بعض العلامات المضيئة فى تراث كتاب كبار، وعلى رأسهم صاحب المقام الرفيع يحيى حقى. وقد أشرف دوارة على إنجاز ثمانية وعشرين مجلدا، جمع فيها كثيرا من القديم والجديد الذى كتبه حقى ولكنه أهمله أو أنه لم يسعَ لجمعه وتبويبه ونشره، ولكن دوارة هو الذى قام بهذا الجهد. ويعتبر هذا الجهد بالنسبة إلى فؤاد دوارة -رغم مشقته- الجهد العابر فى مسيرته الثقافية والأدبية والفكرية، وقد بدأ دوارة الكتابة والمشاركة فى النشاط الثقافى العام منذ 1948 -كما يكتب الناقد والمؤرخ المسرحى د. سيد على إسماعيل- إذ كان يكتب مقالات عن الشعر والشعراء، وقد جمعها فى ما بعد فى كتاب تحت عنوان «شعر وشعراء». وتقول السيرة الثقافية المدونة فى كتبه للكاتب الكبير إنه ترجم مسرحية «الحضيض» للكاتب الروسى مكسيم جوركى، ونشرها فى دار الطباعة الحديثة بالإسكندرية عام 1953، وكان هذا هو أول كتاب نشره فؤاد دوارة، ثم نشر كتابه الثانى، ومن تأليفه عام 1958، وهو «سقوط حلف بغداد»، وكان دوارة فى هذا الوقت يكتب بوفرة فى مجلة «الإذاعة»، وما زالت فى صفحات هذه المجلة مقالات لم تجمع حتى الآن فى كتب. وجدير بالذكر أن الدكتور سيد على إسماعيل أشار إلى عدة مصادر كان يكتب فيها دوارة، مثل مجلات «الإذاعة» و«المجلة» و«الشهر»، إلا أنه لم يذكر جريدة «المساء»، التى نشر فيها دوارة عددا كبيرا من المقالات، وهو كان المحرر الرئيسى لباب «جولة الكتب»، فى أعوام 1959 و1960 و1961، وأغنى هذا الباب بتنوع مدهش، كانت الفترة تحتمله بكل جدارة، هذا فضلا عن دراساته التى كانت تنشر على صفحات كاملة فى الصفحة الأخيرة من الجريدة، وفى هذه الصفحة كتب عن كتاب غربيين كثيرين، مثل فلوبير ومارك توين وغيرهم. ومثلما حدث فى الإبداع والطرب والمسرح وتم تهميش قامات كبيرة وإبراز آخرين بمساندة الدولة، تم إغفال جهود دوارة، رغم دأبه الجبار فى متابعة الحياة الثقافية الشاملة، وكان يكتب النقد للعروض المسرحية، والقصة القصيرة، والروايات، والشأن الثقافى العام، ولم تكن مقالاته شأن المقالات العابرة، ولكنها كانت تترك آثارا عميقة فى الحياة الفنية والثقافية والفكرية والأدبية عامة، وكان رغم حداثة مشاركته فى الحياة الثقافية له قلم شجاع ومشاكس وجرىء. وكان قلمه لمّاحا بشكل لافت، ففى 20 مايو 1960 كتب فى بابه «جولة الكتب» عن مسرحية «الشقيقات الثلاث» للروسى أنطون تشيخوف، وكان قد نقلها الناقد الدكتور على الراعى، ولمح دوارة إلى أن أزمة المسرح فى ذلك الوقت كانت متبلورة فى قلة الكتاب المسرحيين، وكان العنصر الذى أظهر هذه الأزمة هو ظهور بعض الفرق المسرحية، التى كان يعوزها النص الجيد، لذلك أشاد دوارة بترجمة هذه المسرحية المهمة لتشيخوف، خصوصا أن مترجمها الدكتور والناقد الكبير على الراعى، والدارس لفن المسرح من أوسع أبوابه، وكان قد أنجز رسالة علمية فى إنجلترا عن الفيلسوف والكاتب المسرحى الأيرلندى برنارد شو. وقبل هذا وذاك، كانت لدوارة معارك ثقافية ونقدية بارزة، فقبل هذا الزمن بقليل، عرضت مسرحية عنوانها «كسبنا القضية»، وقام بالتمثيل فيها محمد توفيق وكريمة مختار وزوزو ماضى وآخرون، وكانت المسرحية من تأليف الكاتب المسرحى محمد رفعت، وفى أبريل عام 1960 كتب الناقد الأدبى فاروق القاضى مقالا فى صحيفة «المساء» وراح يسرد بعض المؤاخذات الحادة على النص المسرحى، وقد حاول المخرج إنقاذ بعض السلبيات الخاصة بالنص المكتوب، وذلك عبر أداءات تمثيلية لافتة، وكانت المسرحية تتحدث عن محامية شابة منهمكة فى عملها بشكل كبير، وهام بها أحد المعارف، وأرادها زوجة له، وصرّح لها بذلك، وكان شرطه أن تترك المحاماة، وبالفعل وعدته بذلك، ولكن ليس قبل عام من الاتفاق، حتى تستطيع تصفية أعمالها وقضاياها، ولكن العمل لا ينتهى، فيخترع هذا المحب العاشق قضية، حتى يستعين بها كمحامية، وتتعقد القضية بين شد وجذب، ودخول شخصيات أخرى. ويكتب فاروق القاضى عن بعض الإملال الذى أصاب المسرحية، وهذا لأن هناك بعض المواقف المقحمة داخل النص.. العرض، وكان يمكن التخلص منها، فهناك ضرورات فى العرض لا بد أن تكون فاعلة، وهناك إكسسوارات، وهذا النص مكدس بالإكسسوارات، التى كان يمكن التخلص منها بسهولة ويسر، خصوصا أن هذا العرض جاء بعد غياب مسرحى طال زمنه. ولكن هذا الكلام لم يعجب الناقد الشاب فؤاد دوارة، فكتب مقالا أشاد فيه بالمؤلف، واعتبر أن المسرحية تناقش بفنية ملحوظة قضية المرأة وتحررها، وردّ دوارة على القاضى، وراح يقارعه الحجة بالحجة. جمع دوارة كثيرا من مقالاته ودراساته فى المسرح والقصة والرواية، وأصدرها فى كتب عديدة، ولكن تبقى كثير من جهوده ما زالت تنتظر الجمع والتوثيق والنشر، هذا فضلا عن أن كتبه التى نشرت سابقا نفدت ولم يعد لها أثر، رغم أهميتها القصوى لحياتنا الثقافية، مثل كتابه عن نجيب محفوظ، أو كتابه «أيام طه حسين»، ويظل الكتاب المرموق فى مسيرة دوارة هو «عشرة أدباء يتحدثون»، ورغم أنه كتاب حوارات فإنه ما زال يعمل كوثيقة أدبية عظمى، فى حياتنا الأدبية. أردنا فقط أن نشير إلى جهد أحد الجنود الكبار فى خدمة الثقافة المصرية، نأمل أن تدركه المؤسسات الثقافية، فتعيد نشر بعض تراثه الرائد والمهم.