كان الشاعر عبد الرحمن الشرقاوى من أهم الشعراء الذين أثروا فى تجديد حركة الشعر الحديث، منذ أن كتب قصيدته الشهيرة «رسالة من أب مصرى إلى الرئيس الأمريكى ترومان»، وكان ذلك عام 1951، ولأن الشرقاوى كان منشغلًا فى مجالات عديدة، لم يستقر على كتابة جنس أدبى واحد، فكتب فى القصة، وأصدر أولى مجموعاته القصصية «أرض المعركة»، ثم كتب رواية «الأرض»، ونشرها مسلسلة فى جريدة «المصرى» عام 1953 ونشرها فى جزأين عام 1954، لتصدر عن سلسلة «الكتاب الذهبى»، والتى كانت تصدر عن نادى القصة آنذلك، وكان بالإضافة إلى ذلك مشغولا تماما بالصحافة، فأنشأ مع حسن فؤاد مجلة «الغد»، وصدر عددها الأول عام 1953، ثم راح يمارس الصحافة فى صحف ومجلات أخرى بعد ذلك، وفى عام 1959 كتب مسرحيته الشعرية الأولى «مأساة جميلة». ولذلك كان جهد الشرقاوى موزعًا على قبائل الأدب والفن والصحافة بشكل لم يسمح له أن يلعب طويلا فى ساحة الشعر، لكنه ترك أثرا عميقا بقصيدته الطويلة «رسالة من أب مصرى إلى الرئيس ترومان». وفوق هذا وذاك، كان الشرقاوى منشغلًا بالحركة الوطنية المصرية أيما انشغال، فكان يكتب فى السياسة، والمتغيرات السياسية كثيرا، وأصدر كتابا مهما له عن مؤتمر باندونج، وكان متحمسا إلى حدّ بعيد لتجربة باندونج، وغير هذا فقد خاض الشرقاوى تجربة الترجمة، والذى لا يدركه ولا يعلمه كثيرون، أنه ترجم رواية لمكسيم جوركى عام 1958، وصدرت عن دار الفكر. وكان الشرقاوى يثير قدرا كبيرا من الأفكار التى تثير معارك محورية، وضمن هذه المعارك، الرسالة التى وجهها إلى الدكتور طه حسين على صفحات مجلة «الغد»، وهى تشيد بدور طه حسين فى الثقافة المصرية على مدى عقود مصرية عديدة، ولكنه بدأ يهدم هذا الدور ببعض المواقف السياسية التى راح يبرزها بقوة آنذاك، ونُشرت هذه الرسالة عام 1953 على صفحات مجلة «الغد». وفى عام 1960 كتب الشرقاوى سلسلة مقالات عن التجديد فى الشعر الحديث، واستعرض تاريخ الشعر المصرى منذ أوائل القرن العشرين، وأوضح فيه أن الشعر المصرى وجد تجديدا كبيرا على أيدى الشاعرين أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، لكنهما ظلا يكتبان بالطريقة ذاتها إلى أمد طويل، حتى نشأت احتجاجات وتمردات عليهما من الكتَّاب والنقاد الجدد، فنشأت مدرسة «الديوان» التى كان يقودها عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى وعبد الرحمن شكرى، واستطاع هؤلاء الثلاثة أن يهزّوا عرش أمير الشعراء أحمد شوقى، رغم أنه لم يكن قد تقلّد إمارة الشعر بشكل فعلى، والتى أتته عام 1927، باعتراف شعراء مصر والشرق قاطبة، وحينها كتب رفيقه اللدود حافظ إبراهيم قصيدة جاء مطلعها: أمير القوافى قد أتيت مبايعا .. وهذى وفود الشرق قد بايعت معى وهذه القصيدة شفعت لحافظ إبراهيم عند شوقى، فرثاه الأخير بقصيدة موجعة عند رحيله، والتى استهلها ب: قد كنت أوثر أن تقول رثائى .. يا منصف الموتى من الأحياء وبعيدا عن هذا الاستطراد والاستعراض كتب الشرقاوى فى مديح المرحلة الأولى من القرن العشرين، والتى مهّد فيها العقاد وطه حسين والمازنى لحركة تجديدية فى الشعر، وكانت أبرز هذه التجديدات مدرسة «أبوللو»، ثم مدرسة «شعراء المهجر»، ولكن الشرقاوى لاحظ أن طه حسين قد انحاز إلى مهاجمة الشعر الجديد فى تلك الفترة التى كان الشرقاوى يكتب فيها المقالات. وهذا لم يعجب طه حسين، وكان آنذاك يشغل رئيسا لتحرير جريدة «الجمهورية» ضمن مجموعة من الكتّاب والصحفيين، فاتصل الدكتور طه بأحد رؤساء التحرير لائما على مقالات الشرقاوى، وأوضح أنه كان نصيرا دائما للتجديد الشعرى، ولم يقف فى وجه هذا التجديد، وعندما علم الشرقاوى بذلك، كتب مجددا، وتمنى أن يكون ذلك صحيحا، وراح يأمل من الله أن تكسب قضية الشعر «العمرين»، ويقصد العقاد وطه، ولكنه أفاد بأن ذلك مستحيل، وراح يعدّد ملاحظات سلبية على طه حسين بالذات، الذى كان يأمل فى أن ينتصر لحركة التجديد الشعرى، ولكنه خيّب آمال الشعراء الجدد. وهذا لم يعجب طه حسين مرة أخرى، فكتب مقالا تحت عنوان «الشعر الحديث وكتّاب القصة.. ونقادهم»، وراح يكيل سلسلة من الانتقادات على فحوى النقد المعاصر آنذاك، وطال هذا النقد الشرقاوى ومحمد مندور ومن لفّ لفهما، ووصف طه حسين هؤلاء النقاد ب«المتأدبين». وفى مقاله الذى عقّب فيه الشرقاوى على مقال طه حسين، وعنوانه «مسألة المتأدبين»، ناقش فيه عددا من القضايا المطروحة، ولكنه توقف عند هذا الاستخدام للفظ «المتأدبين»، وقال الشرقاوى: «إننى أرجو أن يكون الأستاذ الدكتور طه الذى عُرف بالدقة فى اختيار الألفاظ الدالة قد اختار كلمة المتأدبين لمعنى آخر غير الذى تدلّ عليه الكلمة دلالة ظاهرة». وهذا لم يعجب طه حسين مرة أخرى، فعاد وكتب فى 21 أبريل مقالًا يردّ فيه على جمع من النقاد الذين لامهم وانتقدهم، ولاموه وانتقدوه كذلك، فنصح الشرقاوى بأن يقرأ كتب اللغة ليفهم معنى كلمة «المتأدبين»، ولكن الشرقاوى يعود مرة أخرى ليكتب مقالا تحت عنوان «وفوق كل ذى علم عليم»، ويواجه طه حسين بأنه بحث فى القواميس والمعاجم، فلم يجد أساسا لكلمة «المتأدبين»، وكان حتما أن يردّ طه حسين على هذا التخطيُئ الفادح، فكتب مقالا جديدا تحت عنوان «الأدب والمتأدبون»، قال فيه: «أحب قبل كل شىء أن أنصف الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى من نفسى، فقد قرئ علىّ القاموس المحيط للفيروزبادى خطأ، فكتبت ما كتبت، وكان الأستاذ الشرقاوى صادقًا فى أنه لم يجد هذا النص الذى ذكرته فى القاموس ولا فى اللسان»، ولكن الدكتور يعود فيقول: «لست أكره أن يسمّينى من شاء متأدبا أو متعلما، فكل إنسان متعلم دائما، منذ يدخل هذه الحياة إلى أن يخرج منها..»، ويسترسل طه حسين فى درسه النقدى، لنتعرف على معركة ثرية وفريدة فى تاريخ الأدب العربى.