توفى مجدى عبد الملاك «الجنرال»، أو هكذا كان ينادى بعضنا صاحب مقهى «ريش» ومديرها الأسبوع الماضى، وأنا خارج مصر، وكانت مغلقة لنحو أسبوعين سابقين على ذلك لمرض مجدى، ووضعه تحت العلاج المكثف بإلحاح شديد من جميع الأصدقاء ومعاونة فعلية من المهندس عباس عباس مع عدم السماح لأحد بزيارته والاطمئنان عليه كما كانت دائمًا العادة مع مجدى فى ظروف مشابهة! لم أفاجأ عندما علمت الخبر عن طريق المهندس عازر فرج الذى اهتم بأن يصل إلى علمى مرض مجدى الشديد فى أواخر الأيام، وكيف كان يتحامل للوصول من منزله القريب من القهوة دون الاستعانة بعصا تعينه، ثم الجلوس على مقعد الإدارة وسيجارته لا تفارق شفتيه معلنة أن مدخنها لا يهزمه مرض ولا ينال من قدرته على الاستمرار حالة صحية متردية، والأهم أن زعامته للمكان ليست مستمدة من مكانته القانونية كصاحبه ومديره، وإنما من قدرته على إدارته، والتحكم فى نمط رواده. على مدى سنين عديدة واجه فيها المكان مشكلات مع الجهات الإدارية أدت إلى إغلاقه وإعادة فتحه أكثر من مرة، ثم واجه مشكلة تغيير مالك العقار وما نجم عن ذلك من مشاحنات، بالإضافة إلى العروض شبه المستمرة من تجار ومستثمرين للتخلى عن المكان، إما لإدارته وإما لتحويل نشاطه كما حدث لأغلب معالم وسط القاهرة.. وأخيرًا ما اعترى الوضع من مشكلات لا يعلم تجذرها إلا القليلون من الأصدقاء الذين سمح لهم مجدى أو أخوه ميشيل فى السابق بالاطلاع عليها، ولذلك إن كنت لم أفاجأ بموت مجدى إلا أننى فوجئت بأننى لم أضع سيناريو وفاته فى الحسبان أبدًا، وكأن «ريش» هى مجدى أو أن مجدى كان «ريش»! وبين «عم فلفل» الصامت من أربعينيات القرن الماضى وما زال وكأنه عمود يستند إليه بناء المكان، كان مجدى من خلال نوافذها يشاهد ما يجرى وراءها على مر السنين، ليحكى لنا فى مرات نادرة على غير عادته، ونحن جالسون خارج الباب قرب ساعة الإغلاق فى إحدى أمسيات صيف السنوات الماضية عن وسط البلد وعن تاريخ «ريش» الذى كان كلما سنحت الفرصة بأن يطلعنا على أغلب الوثائق الدالة على هذه الأحداث التى جرت على مر أكثر من مئة عام فعل ذلك، والأهم هو كيفية الحفاظ على هذه الوثائق ومعرفة حكاياها وما خلفياتها وتأثير ذلك فى التغيرات السياسية والثقافية والاجتماعية والانعكاس على مرتادى المكان وخصوصية ذلك، ثم التغيرات بمنطقة وسط البلد وبمصر كلها بوجه أكثر عمومية. إن ما أتحدث عنه ربما لا يحتاج إليه الأصدقاء المترددون على المقهى بشكل منتظم، أو المواظبون على حضور إفطار الجمعة بشكل مستمر أو حتى الذين يأتون لممارسة هذا الطقس الأسبوعى والتعرف عليه وعلى مرتاديه كلما سمحت ظروفهم، ولكن لمن لا يعرف أن لمصر مكانًا معاصرًا شاهدًا عليها، ومرتاديه ممن حركوا الأحداث فيها أو نظروا إليها، كما خرج من هذا المكان أو أوى إليه العديد من أساتذة الأدب والثقافة والسياسة على مر العقود الماضية، والأهم أن «مقهى ريش» كان دائمًا من ضمن منارات مصر التى نتمنى أن تظل مضاءة، ولا يخبو وهجها كما حدث مع بعض الأماكن الأخرى التى كانت تقوم بنفس الدور التنويرى والحضارى فى عصور سابقة. إن ما نتمناه أن يتخطى المكان حدث وفاة مجدى عبد الملاك بكل ما يحمل ذلك من آلام أو صعوبات لوجيستية، كما نرجو أن يكون هناك صيغ للتفاهم من العائلة من ناحية ومن جهة ملاك العقار من جهة أخرى، حتى لا تطول فترة الإغلاق أكثر من اللازم ليعود المكان الرائع إلى الحياة مرة أخرى، ولنعود لطقوسنا المنتظمة ثانية، وليكون ردنا على من يتصل بنا الجمعة صباحًا ممن لا يعرفون المكان - ف ريش - ش سليمان باشا- طلعت حرب- 17- أيوه 17 ش طلعت حرب.