برز لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية مع ابتعاد الكنيسة الكاثوليكية، كمؤسسة، عن رجعيتها التاريخية، وانتهاجها سلوكا راديكاليا فى مواجهة نظم الحكم القائمة فى كل بلدان القارة تقريبا كرد فعل على تدخلها العنيف فى الحياة، وانتهاكها الأعمى لحقوق الإنسان، واستخدام التعذيب المنهجى واسع الانتشار، والتزايد المطرد فى أعداد المفقودين الذين سقطوا ضحايا شكل جديد من أشكال إرهاب الدولة. ثم نما فى مواجهة تبعية هذه النظم للمركز الرأسمالى، والتدخل الإمبريالى الأمريكى، المتكررة فى سياساتها، ونزوعها لإسقاط الأنظمة ذات الميول القومية أو اليسارية، أو حتى الشعبوية، لصالح النظم العميلة، والنخب التجارية القابلة للتبعية، حيث برزت رؤية جديدة، لدى القادة الدينيين الكبار المنتمين سواء إلى اليمين أو اليسار، أخذت تنظر إلى الصراع من أجل الهيمنة العالمية بين القطبين، بوصفه صراعا مانويا بين الخير والشر، وأن الراسكمالية الأمريكية تمثل ذروة الشر الذى لا بد وأن يهزم فى النهاية، كما تقول عقيدة الخلاص المسيحية. وربما كانت حاجتنا ماسة اليوم، بل هى حاجة الأمس التى تأخرت إلى اليوم، إلى مثل هذا اللاهوت، الإنسانى والتحررى، الذى يتسم بالعقلانية والتاريخية والإيجابية معا، كى يستعيد النزعة الفردية للإيمان الإسلامى، ويخلصنا من سلطة النصوص التراثية، وهيمنة الروح القطيعية التى تصنع التطرف القبيح، وتقف وراء الإرهاب المقيت. فحاجتنا شديدة إلى لاهوت عقلانى، يرتكز على مركزية العقل الإنسانى فى الإيمان، ينفتح على قضايا العصر ولا يقع فريسة لعبادة النص، ولا يتوسع فى تعريف النص ليحتوى التراث الدينى كله، بل يتعامل معه بروح نقدية، لا يخضع لظاهره، بل يخضع هذا الظاهر للتأويل، الذى يجعل من العقل معيارا للنص، كما كان الأمر لدى ابن رشد والمعتزلة، وأخيرا لدى محمد عبده، لا العكس كما كان الأمر لدى أهل السنة، خصوصا الأشاعرة، وأخيرًا لدى الكهنة الجدد، محترفى الإسلام السياسى، الذين لم يعبدوا النص المؤسس فقط (القرآن الكريم)، بل كل نص تراثى صادفوه فى طريقهم إلى هذا النص المؤسس، وصولا إلى الكهف الذى أغلقوه على عقولهم. وحاجتنا أشد إلى لاهوت تاريخى يربط بين العقيدة والتاريخ، يضع نقد النص الدينى نفسه فى سياق ومانه، فلا يصدر عليه حكما إلا فى السياق الذى أنزل فيه أو جمع فيه أو كتب فيه. ولا يكون عنه فهما ولا يصدر له تفسيرا إلا فى ضوء البيئة التى وضع لها، والمجتمع الذى استقبله، ومستوى النضج العقلى، والتطور المعرفى للإنسان الذى خاطبه، اللهم سوى فى النصوص/الآيات المحكمات التى تتعلق بصلب العقيدة وأركان الدين. وآخرا لا أخيرا إلى لاهوت إيجابى ينهض على علاقة جدلية بين الله والإنسان، يدرك أن الله هو القطب المركزى فى الوجود، لكن الإنسان ليس عدما، بل قطبا ثانيا فى الوجود نفسه، لا يمكن تصور كمال الله من دون وجوده، الذى يعد دليلا على هذا الكمال، وانعكاسا له.. لاهوت لا يبرر للمسلم الانتظار السلبى الخجول لملكوت السماء القائم فى عالم الغيب، ولا يدفع به، فى المقابل، إلى استدعاء هذا الملكوت إلى الأرض بالعنف والإرهاب، اللذين يقضان مضاجع الحياة والأحياء عليها، بل القيام بفعل حضارى منظم لتحسينها، وعمارتها، ونشر قيم المحبة والسلام فيها، كونه المستخلف عليها، الذى حمل أمانتها.. لاهوت يحتفى بالإنسان، ويحترم الروح الإنسانية، فلا يراها مجرد قربان يجب أن يراق دمه، على مذبح الأديان.