شأنه شأن كل أصحاب المشاريع الفكرية الذين مروا بمصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، جاء مشروعه الفكري مضبباً مموهاً، عبر عنه بلغة اختزالية حالت دون استيعابه كمشروع فكري نهضوي، فمن تتبع أفكار د."يوسف زيدان"، نجده يطلق مشروعه الفكري كمن يطلق بالوناته إلي الهواء لكي يرصد رد فعل المتلقين، حتي يطلق بعدها مشروعه الأصلي الذي يضمره، فجميع المشاريع النهضوية التي شهدتها مصر منذ قرنين، كانت عبارة عن مشاريع نهضوية تجريبية، تمهد لمشروع نهضوي غائب لم يصدر بعد، اعتمد د."زيدان" في مدخله علي مغالطة التعددية الثقافية، ولم يحدد معالم منهجه البحثي، فجاءت هوامشه مضللة بل أكثر ثراءً من متونه، واعتمد مذهباً خاصاً للتقريب بين الأديان، وفي النهاية لم يجب علي سؤاله الذي طرحه ابتداءً بالعلاقة بين الدين والعنف في المجتمع العربي؟ أسطورة التعددية! يري د."زيدان" في كتابه "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، انه عندما أمعن نظره في الديانات الثلاث(اليهودية، والمسيحية، والإسلام) وجدها في حقيقة أمرها ديانة واحدة، جوهرها واحد، ولكنها ظهرت بتجليات مختلفة، انتهي بعد ذلك إلي انه أول من اصطنع مصطلح اللاهوت العربي لأول مرة، بيد أن أمره في شأن التعددية الدينية للتجلي، وتوحد المصدر، ومفهومه الذي استحدثه للاهوت لكي يختص به العرب يحتوي علي تناقض عقلي منطقي من الطراز الصارخ؟ فطالما اعترف للفكر الديني بالقدرة علي التنوع، انتفت من عنده خصوصية الثقافة، فباتت نسبة اللاهوت إلي ثقافة بعينها ضرباً من البلبلة بعد الجنوح لا إلي الاستقرار في اللفظ، فالمقدمات التي ابتدأها لا تنتهي إلي النتيجة التي وصل إليها من وجود لاهوت عربي! حيث بدأ بالتنوع لينتهي إلي ربط ما اصطلح عليه مجددا بخصوصية ثقافة بعينها، فكان الأسلم منطقياً لما أسس عليه أن ينتهي إلي لاهوت، فقط دون عربيته أو إضافته إلي ثقافة بعينها، ولكنه إن فعل هذا، حالت أمانة التفكير المنطقي أن تهبه منحة أن يكون أول من نحت مصطلح اللاهوت العربي، كما أن التناقض يمتد ليشمل مفهوم الثقافة عند"زيدان" والتي وّلد منه مفهوم لاهوته؟ فهو لم يجد بداً من أن ينسب فكرة الدين إلي التعددية الثقافية، ثم يسحب علينا مصطلحاً لثقافة واحدة هي العربية، فميلاد المصطلحات يعني وجود معاني جديدة لم يدركها الكلام القديم، لكونها كانت مستترة أمام المفكرين، كما يدعي"جاك ديريدا" في كتابه"علم الكلام"، ولكن د."زيدان" قام بعملية كولاج، ومونتاج سينمائية من اجل التوفيق بين معني التعدد الثقافي، والتجلي الصوفي الواحد لفكرة التدين، فلم يصل إلي درجة القس الايطالي"لويجي جوساني" في كتابه "الحس الديني"، والذي يرجع الدين إلي حالة من حالات الخصوصية في العلاقة بين الإنسان والخالق، ففكرة الدين التي غابت عن د."زيدان"، أن الدين هو معطي ظاهر في سلوك الإنسان في جميع الأزمنة، وله تأثير علي مجمل النشاط الانساني، أما أن يحصر الحس الديني د."زيدان" عند العرب في إنتاج العنف، بكل تجلياته اليهودية، والمسيحية، والإسلامية، فهو مصادرة علي فكرة النهضة التي قام بها الإنسان في أوروبا معتمداً علي الدين، وكذلك العرب، فخلاصة نتائج مشروع اللاهوت عند د."زيدان" يغيب عنها الاعتماد علي مقومات قائمة في المجتمع من اجل النهضة، مما يجعل مشروعه الفكري تخريبي اكثر منه نهضوي، فالأصل أن نعيد توظيف فكرة التدين من اجل النهضة، وليس أن نهدمها من اجل نهضة غائبة، فالدين في ارض الهلال الخصيب أنتج خبرة معرفية إرهابية تميل إلي العنف عند د."زيدان". في منهج زيدان اللاهوتي؟ الأصل في المناهج البحثية للموضوعات العقلية كما تأسست عند د."زكي نجيب محمود"، ود."فؤاد زكريا"، أنها طرق الاستدلال من مقدمات بالمنطق إلي نتائج تنتهي إليها هذه المقدمات، إلا أن د."زيدان" عندما عرض لمنهجه البحثي، لم يذكره، وإنما نوه عنه، بالمحاذير التي سيتجنبها عند التفكير وأهمها التخلص من الميول، والاعتقادات الدينية، والمذهبية، سعياً للوصول إلي الموضوعية اللازمة لتفسير الظواهر الدينية، واقتران التدين بالعنف، والتخلف عن الإنسانية، فراح يبحث تاريخياً عن نقاط التماس بين الأديان الثلاث، بينما البحث في الخبرة الدينية يعني البحث عن ظاهرة تتعلق بالواقع الانساني، فهي من أبحاث الوجود الذاتي، ويجب أن تصدر عن الخبرة الدينية نفسها، فهناك فرق لم يدركه د."زيدان" حين تجرد من الميل إلي اي دين ليكون موضوعياً، وبين كونه يجب أن يكون منتمياً إلي عالم الأديان التي يبحث فيها ليتمكن من رصد تجربته الذاتية وخصوصية خبرته، بموضوعية هي الأخري, فهو يبحث عن الخبرة الدينية، والخبرة تتطلب تقييماً، وإلا بدي الأمر كما لو كان د."زيدان" يبحث عن تقييم الآخرين لتجربة التدين في مجتمعنا العربي، فكون د."زيدان" نفي عن نفسه الميول والاعتقادات الدينية، فهو يعني بذلك انه سلب عن نفسه القدرة علي تقييم التجربة الدينية لدي بني ثقافته، بل نفي عن نفسه خبرة ما ينتوي أن يبحث فيه، فمن الصعب أن ينسب إلي نفسه خبرة ما دون أن تكون لديه القدرة علي التقييم، والقدرة علي التقييم تأتي من الإيمان بمعتقد ما، يكون هو الصفر المعياري لقياس نتائج الخبرة المتحصلة، فقد يكون من الموضوعية أن يعلن باحث ما انه أصبح بوذياً، من اجل أن يقيم التجربة اليهودية، والمسيحية، والإسلامية، فالحس الديني نتاج تجربة، ولذا قال النبي صلي الله عليه وسلم عندما سأل "أبا بكر"، و"عمر"، و"علي"(رضي الله عنهم) عما في الإناء؟: فقال الإمامان:" عسل"، بينما وضع سيدنا "علي" إصبعه في الصحن، وذاقه، وقال:"عسل يارسول الله"، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:" من ذاق عرف ياعلي"، إن الحكم علي التجربة اللاهوتية عند العرب يحتاج إلي معيار يقوم علي أساسه هو التذوق، والخبرة الشخصية التي أنكرها علي نفسه د."زيدان"، ولكنه في نفس الوقت، لم يقدم لنا معياراً نعتمد عليه للحكم علي ما اكتشفه خلال تفكيره في لاهوته، وإنما قدم لنا مجرد محاذير تفكيرية. لقد فصل د."زيدان" الإيمان عن العقل تماماً، وتحول مصدر الإيمان إلي معرفة أسطورية، ولكنه عاد وقرأ تلك المعرفة الأسطورية قراءة عقلية مرة أخري، لكي يصل إلي نتائج سابقة التجهيز لديه، فما كان منه إلا أن قام بمجموعة من الادعاءات مفسراً لها خارج سياقها التاريخي الذي تمت فيه، والتي كانت يوماً معبراً صادقاً عن ثقافة بعينها، إلا انه أعاد قراءتها، وكأنها كتبت اليوم، فجاء عمله في مواجهة تيار التاريخ، ويحول دون الفهم الصحيح للأشياء كلها التي ذكرها في لاهوته. الهوامش المموهة!؟ لا شك أن د."زيدان" مؤلف من الطراز المحترف للتأليف، فهو يجيد تمرير الأفكار بين متونه، وهوامشه، فيذكر في متن ص 22، علي استعجال أن الصنم هو المعبود الذي لا يتخذ هيئة محددة مثلما هو الحال في أصنام اللات التي كانت غالباً أحجار بيضاء مكعبة الشكل، ويتجنب ما تفجره العبارة من إسقاطات، فيتحول في هامش نفس الصفحة لذات العبارة للإشارة المرجعية المجهولة إليها، عند"ابن منظور" لبيان الفرق اللغوي بين الصنم، والوثن، بينما اللات لم يذكر في اي من كتاب "الأصنام" ل"الكلبي"، ولا في "الإكليل"ل"الهمداني" علي هذا النحو، فقد خلط د."زيدان" بين الأصنام، والأزلام، والأوثان، والكعبة، فهامشه لم يأت لتوضيح مرجعية، أو تحديد مفهوم، وإنما جاء ليلقي بالتفكير بعيداً عن الموضوع الذي استهدف تمريره، وهو أن الشكل المكعب كان شكلاً لصنم اللات؟! كما يشير في هامش الصفحة رقم 144 إلي أن النصوص الدينية ليست مقدسة بذاتها، وإنما باعتقاد الذين يقدسونها، بإشارة هامشية لموضوع لم يرد ذكره في المتن، وعبارة خالية من التخصيص لتنسحب ببراءة علي كل النصوص المقدسة، دون دليل أو مناقشة، أو شرح وبيان مبررات تأليفها، أو ترديدها وفي موضع آخر يقيم القدرية عنواناً للاهوت العربي الضارب بجذوره في الفكر النصراني، وكأن القدرية هي كل شئ في العقيدة الإسلامية، وهي محك لكل الخلاف الفكري بين الاشاعرة، والمعتزلة، فهو يختار القضايا الحاكمة التي تتناسب فقط مع موضوعه في المتن، بينما في هامش ص 165، يشير إلي الأصول الخمسة للمعتزلة، والتي هي جوهر الفرق بينهم وبين الاشاعرة من القول بالتوحيد، وتأويل الصفات، والعدل الالهي، والوعد والوعيد، والقول بالمنزلة بين منزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاحتوت هوامشه علي ما كان متنه أحق منها باحتوائه. مذهب زيدان في التقريب بين الأديان يعتبر مؤلف د."زيدان" حواراً بين الأديان في قسمه الأول حتي الفصل السادس، ومن الفصل السابع والأخير بدا حواره بين المتدينين، وهذا هو الجديد، وبيت القصيد في كل المؤلف، حيث أن الأديان لا تتحاور فيما بينها، وإنما الذي يتحاور هم المتدينون بهذه الأديان، فجاء فصل اللاهوت والملكوت ليكشف عن حقيقة التدين من خلال التجارب الفعلية في الواقع المعاش، اي في الملكوت الأرضي، فتماست الديانات الثلاث من حيث أفكار الحضور الالهي بالإنابة لدي البشر عن طريق ممثل انساني، وان الله تعالي يمارس الإبادة علي أعداء الله في الأديان الثلاث،أما في التماس الثالث، وهو فكرة الخروج، حيث تتبع د."زيدان" تاريخ الخروج منذ سيدنا "إبراهيم"، حتي انه اعتبر هجرة سيدنا "محمد" صلي الله عليه وسلم خروجاً، فاصطدم بذلك مع فكرة الثورة، ولم ينجح في تبرير جعله الخروج فعلاً خاصاً بالأديان الثلاث لأن الموضوع يحتاج لتوسعة دائرة البحث بفكرة الدين عند الثقافات الأسيوية وهو ما انتهي إليه الباحث السعودي"فالح العجمي" في كتابه" صحف إبراهيم، حيث انتهي من استقرائه إلي التشابه بين اسمي النبي"إبراهيم"وزوجته"ساره" في النصوص الدينية السماوية من جهة، ومن جهة أخري باسم"براهما"، و"سارسوتي" في ديانة الفيدا السنسكريتية الهندية، ونفس قصص العبور، والخروج، كما أن التأسيس الانثروبلوجي يحتاج لدي د."زيدان" لوعي ببنيوية"شتراوس"، وما بعدها من اجل الوقوف علي المتشابه، والمختلف من طبائع البشر، مع تنوع ثقافاتهم، علي عكس ما افترضه د."زيدان" من تعدد الثقافات، وتوحد الأديان. خدعة زيدان؟ بعد تتبع كل فصول الكتاب الذي عنوانه" اللاهوت العربي وأصول العنف الديني"، تظل منتظراً لبيان علاقة فكرة الدين الممزوج بالثقافة العربية بالإرهاب، والعنف حتي تصل إلي نهاية الكتاب دون إجابة تتضمن ما احتواه عنوان الكتاب، حتي تصطدم بإحالة المؤلف في قوله الأخير للصلة بين الدين والعنف إلي بحث غير منشور قدمه قبل سبع سنوات في مؤتمر دولي عقد بالعاصمة الاوزبكية طشقند، رأي انه من المناسب أن يضمه إلي الكتاب كملحق، وكأن د."زيدان" قام بتأليف كتابه هذا ليكون مقدمة لملحق ألفه منذ سبع سنوات، أو بالأحري هو ملحق لملحق لا علاقة له بالمقدمة، أو مقدمة منبتة الصلة بملحقها، فبعد كل هذا الجهد لا نعثر علي ما توهمنا الحصول عليه من قراءة اللاهوت عند د."زيدان"!!؟