تعرف على برنامج احتفالية عيد العمال بحضور السيسي    عيار 21 الآن بيعًا وشراء.. سعر الذهب اليوم الخميس 2 مايو 2024 في أولى التعاملات    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    تراجع معدل التضخم في كوريا الجنوبية لأقل من 3% لأول مرة منذ 3 أشهر خلال أبريل الماضي    الإسكان: جار تنفيذ 64 برجا سكنيا بها 3068 وحدة.. و310 فيلات بتجمع صوارى في غرب كارفور بالإسكندرية    الطلاب يتظاهرون بالجامعات البريطانية احتجاجا على الحرب في غزة    هيئة البث الإسرائيلية: تشاؤم في إسرائيل بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح الرهائن    الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني وتدمير 12 طائرة مسيرة كانت تستهدف مناطق في العمق الروسي    ميدو يصدم قائد الأهلي ويطالب بتسويقه    فيديو.. الأرصاد: أجواء مستقرة بشكل كبير حتى الثلاثاء المقبل    مصرع طالب صدمته سيارة مسرعه أثناء عودته من الامتحان ببورسعيد    فصل رأسها عن جسمها.. حبس المتهم بذبح ابنته وتقطيع جسدها لأشلاء في بولاق الدكرور    أبطال فيلم السرب وأسرهم يحتفلون بنجاحه في أول أيام عرضه (صور)    سفير روسيا لدى واشنطن: اتهامات أمريكا لروسيا باستخدام أسلحة كيميائية في أوكرانيا بغيضة    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    "الحرب النووية" سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    بحضور السيسي، تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    نسخة واقعية من منزل فيلم الأنيميشن UP متاحًا للإيجار (صور)    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    الصحة: لم نرصد أي إصابة بجلطات من 14 مليون جرعة للقاح أسترازينيكا في مصر    الصحة: مصر أول دولة في العالم تقضي على فيروس سي.. ونفذنا 1024 مشروعا منذ 2014    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    تشيلسي وتوتنهام اليوم فى مباراة من العيار الثقيل بالدوري الإنجليزي.. الموعد والتشكيل المتوقع    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    أمطار تاريخية وسيول تضرب القصيم والأرصاد السعودية تحذر (فيديو)    تامر حسني يوجه رسالة لبسمة بوسيل بعد الإعلان عن اغنيتها الجديدة.. ماذا قال؟    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    كوكولا مصر ترفع أسعار شويبس في الأسواق، قائمة بالأسعار الجديدة وموعد التطبيق    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    النصر يطيح بالخليج من نصف نهائي كأس الملك بالسعودية    الخطيب يطالب خالد بيبو بتغليظ عقوبة افشة .. فماذا حدث ؟    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنيس منصور.. والسلطان الحائر.. وحمار الشيخ عبد السلام!
نشر في التحرير يوم 27 - 11 - 2014


الدكتور مجدى العفيفى:
يتجه الدكتور مجدى العفيفى -ابتداء بهذا الفصل السادس- من كتابه «مع أنيس منصور فى ال200 يوم الأخيرة» الذى يختص به «التحرير» حصريا، قبل دفعه إلى المطبعة، إلى الإبحار فى مذكرات أنيس منصور.. السياسية والصحفية.. والعاطفية.. واستقطار أوراق منها، مسطورة بالأسرار، ومشحونة بالمواقف، ومسكونة بالتجارب.
وقبل تقليب صفحات من المذكرات السياسية، تنبغى الإشارة إلى مهاد مكثف لعلاقة أنيس منصور بالسياسة والكتابة السياسية وصناع القرار السياسى، اقترابًا وابتعادًا، وحذرًا وحراكًا فى المسافة الشائكة بين الثقافى والسياسى.
كان أنيس منصور يؤثِر دائما أن يكتب «فى» السياسة، يمسّ السياسة دون أن ينغمس فيها، فقد كان من الصعب عقليا ووجدانيا أن يرتضى إطارا فكريا جامدا، أى مذهب فى السياسة أو فى الاجتماع أو فى الدين، وربما كانت الفلسفة الوجودية أقرب دائما إلى مزاجه النفسى، لأنها «ليست مذهبا» ولا «إطارًا»، وإنما كانت تمردا على الإطارات وعلى الأشكال. وفى دراسته الفلسفية كان يتقلب على مذاهب الفكر السياسى، أى أصول مبادئ التفكير السياسى فى الحرية والترابط الاجتماعى وحتمية التاريخ وتطوره أو تطويره بالقوة والثورة.
وإذا كانت المشكلة التى تواجه أديب السياسة هى أن لا يفقد حماسته الأدبية تحت ضغط الأحداث العنيفة المستمرة، وفى الوقت نفسه أن لا تغرقه السياسة فينسى خط البداية، فإن أديب السياسة هو الذى يعرف جيدا أدوات التعبير وقاعدة الانطلاق، وأن يقول كلمته ثم يمشى، ويقولها فى اليوم التالى، ويواصل المشى أو الحركة أو يتعهد بذلك، ومن ثم حاول أنيس منصور ككاتب سياسى أن يكسو السياسة أدبًا وفلسفة وتاريخًا ودينًا وعلمَ نفس ومن حياته أيضا، فهو مشتغل بالأدب يتنقل بين غابات السياسة الخارجية والداخلية، ويعود مثل دودة القز ومثل قواقع اللؤلؤ، ينسج ويفرز راضيًا عن الذى حاول وعن الذى استطاع.
السلطان الحائر.. وحمار الشيخ عبد السلام
أول درس تعلمه أنيس منصور فى الكتابة السياسية كان قاسيا، يوم أن كتب مقالا بعنوان «حمار الشيخ عبد السلام»، وعاقبه عليه الرئيس جمال عبد الناصر بالفصل من عمله، وكان فى ذلك الوقت سنة 1963 رئيسا لتحرير مجلة «الجيل»، ومدرسا فى الجامعة، ووجد نفسه فى الشارع، بلا مرتب محروما من الكتابة ومن التأليف ومن الخروج من مصر إلى أى مكان آخر. وفى ذلك الوقت طلب منه عدد من الأصدقاء أن يترك مصر نهائيا، حتى إنه فكر فى الهرب من بورسعيد، ولكن ظروفا خاصة منعته من ذلك.
أما هذا المقال فكان تعليقا على رواية توفيق الحكيم «السلطان الحائر»، وقد عكس المعانى الواردة فى رواية الحكيم على أوضاع الصحافة فى مصر، وكانت قد أممت نهائيا، ولقى الأستاذان مصطفى أمين وعلى أمين كل أنواع الهوان، ولكنهما رفضا ذلك، ووجدا أن موقف الرئيس عبد الناصر لم يكن موقفا قوميًا من الدرجة الأولى، ولكنه موقف شخصى، وكان أنيس وثيق الصلة بالأستاذين على أمين ومصطفى أمين، وبعلى أمين أكثر صداقة وحبًّا وتشجيعًا وحزنًا على ما أصابهما وأصابه.
السادات: هذا المقال تستحق عليه الشنق وليس الفصل
يتذكر: «أننى عندما أعدت نشر هذا المقال فى مجلة (أكتوبر) قرأه الرئيس أنور السادات فقال ضاحكا:
- أعوذ بالله، إن هذا المقال تستحق عليه الشنق وليس الفصل.
وفى أول لقاء للرئيس السادات بمحررى (أكتوبر) فى ميت أبو الكوم رويت قصة هذا المقال وحرية الصحافة فى عهد الرئيس عبد الناصر، وأعدت تعليق الرئيس السادات وقلت مداعبا: سيدى الرئيس إنك تحيرنى، فالرجل الذى كان يشنق الناس اكتفى بفصلى، وأنت الذى لا تفصل الناس تطلب شنقى». وهذا هو المقال الذى بسببه فصله الرئيس جمال عبد الناصر شهرًا من عمله، وحرمه من التأليف والخروج من مصر:
«حدث هذا فى القاهرة من 700 سنة، علم أهل القرية أن الشيخ عبد السلام قد أهين فقرر أن يترك القاهرة، وأن الخلاف بينه وبين السلطان على سيادة القانون، القانون مع الشيخ والسيف مع السلطان، القانون يحميه إيمان الشيخ عبد السلام، والظلم مع السلطان يحميه السيف ويحميه ألوف المماليك الطغاة الظالمين.
كان الشيخ عبد السلام طرازًا غريبًا من رجال الدين.. يؤمن بالمساواة بين الناس.. فلا فرق بين سلطان وأى إنسان
وخاف الناس وأشفقوا على الشيخ، وراحوا يمسكون بالشيخ عبد السلام ويشيرون إلى أولاده ويشير هو إلى السماء، يشيرون إلى صمته، ويشير هو إلى الأرض التى هى نهاية كل حى، يشيرون إلى السرير، وهو يشير إلى حماره الذى وقف بالباب ينتظر التحرك إلى الشام.
قالوا له: الصبر يا شيخ.
قال: لا صبر على ظالم.
قالوا له: الحلم يا شيخ.
قال: لا حلم مع جاهل.
قالوا له: السلطان يحب.
قال: بل يحب ضعفى أمام القانون.
قالوا له: لا حياة للمسلمين بعدك؟
قال: الإسلام له رب يحميه.
قالوا له: السلطان يقتلك.
قال: ليس أروع من الموت فى سبيل الله.
قالوا له: إرضاء السلطان سهل.
قال: إرضاء السلطان إغضاب لله.
قالوا له: يكفى تقبيل يديه وبعد ذلك كل شىء يهون.
قال: بل كان شىء يهون إلا هذا.
قالوا له: ألا تقبل يدَى ابنك؟
قال: فعلت ذلك كثيرا.
قالوا له: تصور أن يد السلطان هى يد ابنك فقبلها من أجل المسلمين.
قال: لو أن السلطان لا يدرى ما أفعل لقبلت يده ألف مرة، ولو كان لا يدرى فأنا أدرى وأعرف أن هذا هوان، اتركونى.
غادر إلى نيويورك على مقعد له عجلات وتجره معزة
وركب حماره واتجه به إلى الشام. إنه فى هذه اللحظة كان يشبه الفتى الزنجى الكسيح فى الأوبرا الأمريكية (بورجى)، عندما اتجه إلى نيويورك على ظهر مقعد له عجلات، وكانت تجره معزة. إن بورجى هذا اتجه إلى نيويورك يبحث عن محبوبته التى خطفها أحد البلطجية، ومن ورائه أهل المدينة يرثون لحاله، لأنه لا يعرف أن أمامه خمسة آلاف ميل لكى يصل إلى محبوبته.
ومن وراء الشيخ عز الدين بن عبد السلام خرج سكان القاهرة، فلا حياة لهم بعد هذا القاضى العادل، الذى يواجه ظلم السلطان والمماليك. ويومها قال أحد رجال الحاشية للسلطان: إذا خرج هذا الرجل من مصر سقط عرشك.
السلطان يطلب من الشيخ العودة
وخرج السلطان ليرى ماذا فعل الشيخ عبد السلام، فوجد عددًا كبيرًا من الناس يمشون وراءه يبكون كلهم من الفقراء والأغنياء. وأرسل له السلطان رجال الحاشية، ولكن الشيخ أصر على السفر إلى الشام. وكان الشيخ عبد السلام يتحدث إلى الناس وهو راكب حماره، وكان يقول إننى آخذ معى حمارى هذا بالنيابة عن بقية الحمير التى تركتها ورائى فى مصر.
وأخيرا جاء السلطان وطلب من الشيخ أن يعود، واعتدل الشيخ فى جلسته فوق الحمار وقال: ومطالبى؟
قال له السلطان: أحققها لك فأنت الشريعة يا شيخ عبد السلام.
قال الشيخ: بل حارسها يا أيها الإنسان.
الشيخ عبد السلام: لافرق بين سلطان وأى إنسان
وكان الشيخ عبد السلام طرازا غريبًا من رجال الدين، كان يؤمن بالمساواة بين الناس جميعًا، لا فرق بين سلطان وبين أى إنسان، لا فرق بين المماليك والتجار، وكان ينادى المملوك بقوله: يا أى شىء، يا أى حاجة، وكان ينادى العلماء بقوله: يا طالب، يا إمام، وعندما رجع الشيخ عز الدين بن عبد السلام قاضى قضاة مصر، التف الناس حوله يشكون من ظلم المماليك ومن حماية السلطان لهم، وقرر الشيخ عبد السلام أن ينفذ تعاليم الشريعة الإسلامية ويطبق سيادة القانون على الجميع، فالشريعة الإسلامية تنص على أن المملوك لا يحق له البيع ولا الشراء ولا الزواج ولا الطلاق، لأن المملوك بلا إرادة ولا عقل، وليس حرا، أى أنه لا شىء، ولكى يتحول المملوك إلى «شىء» يجب أن يباع فى مزاد علنى، والذى يشترى هذا المملوك له وحده الحق فى أن يطلق سراحه، أى فى أن ينعم عليه بنعمة الإنسان الحر، فإذا صار حرا أصبحت له حقوق جميع المواطنين الأحرار.
عبد السلام: الأمراء المماليك يجب أن يباعوا كالبهائم فى السوق
ومعنى ذلك أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام يرى أن الأمراء المماليك يجب أن يباعوا كالبهائم فى السوق، قبل أن تكون لهم هذه السلطة على المصريين الأحرار، وهذا رأى الشريعة، فالشيخ عبد السلام قد أفتى وأعلن كلمة الشريعة، ثم جلس فى بيته وضجت القاهرة بالدهشة والخوف، وانزعج السلطان، وذهب المماليك إلى مولاهم السلطان يطلبون إليه أن يمسح هذا العار، وثار السلطان، عندما علم أن القاهرة كلها تنتظر هذا اليوم العظيم، وأن الشيخ عبد السلام متمسك برأيه وإلا فالحمار بالباب والطريق مفتوح إلى الشام، وأصبح حمار الشيخ عبد السلام أشهر حمار فى القاهرة، وأحب الحيوانات إلى الأمراء، فلا يكاد الواحد منهم يمر أمام بيت الشيخ عبد السلام حتى ينزل من فوق حصانه، ويتفرج على الحمار، وفى بعض الأحيان يقبله. وكان الشيخ عبد السلام يسمح لهذه الأفواه البيضاء التى قبلت الحمار أن تقبل يده، وحجته فى ذلك أن حمارى هذا أفضل من المماليك، ثم إن قبلات المماليك لا تنقض الوضوء، وكان يقولها جادا، فالشيخ عبد السلام لا يعرف المزاح. وعندما طالب ببيع الأمراء، لم يكن يدرك هذه النكتة التاريخية، ولم يكن يتصور أن هذا شىء جديد فى التاريخ، لم يكن يدرى أن هذه العبارة التى قالها فى ثانية ستصبح مسرحية لتوفيق الحكيم بعنوان (السلطان الحائر) بعد سبعة قرون، ولكن الشيخ عبد السلام كان بسيطا وكان جادا جافا. وحاول أحد الأمراء أن يقتل الشيخ عبد السلام، ثم ذهب إليه السلطان بنفسه، وفى يده سيف، وأمام عدد كبير من الخدم، دق باب الشيخ برجله ثم بسيفه، وكان ابن الشيخ هو الذى فتح الباب، قال له السلطان: قل لوالدك أن يعدل عن رأيه وإلا قتلته.
التاريخ أكذوبة يصنعها الأقوياء ويصدقها الضعفاء.. وهو أكبر جهاز لتكييف الهوى!
وظهر الشيخ عبد السلام، ونظر الشيخ إلى السلطان كما تنظر الأفعى إلى العصفورة الصغيرة، فتسقط العصفورة من شدة الفزع، وسقط السيف من يد السلطان، وسقط السلطان أيضا، ولكن الشيخ عبد السلام أصر على بيع المماليك، ولم يجد الأمراء مفرًا من الشيخ أو من الشريعة، وأعلن الشيخ عبد السلام فى القاهرة أن الأمراء للبيع.
ولم يقبل البيع الرمزى، أى مجرد إهانة هؤلاء المماليك وعرضهم كالماشية أمام المواطنين، وإنما البيع معناه البيع وبأغلى الأسعار، لأن هذه الأموال يجب أن تدخل خزانة المسلمين.
الشيخ: لا فرق بين الحمير والأمير.. كلهم بهائم
واتفق كل مملوك مع أحد أصدقائه على أن يشتريه، وكان الشيخ عبد السلام يطلب ثمنا غاليا فى كل مملوك، وبنفس الروح الجادة التى لا تفهم الهزار فى الحق، باع الشيخ عبد السلام حماره فى نفس السوق، فلا فرق بين الحمير والأمير، (كلها) أو (كلهم) حيوانات، ما دامت بلا عقل ولا عدل ولا حرية. باع حماره لأنه قرر البقاء فى مصر، بعد أن تحررت من العبيد الذين يحكمون الأحرار، وطويت صفحة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ولكن الشيخ نفسه يطل برأسه وبروحه فى ساعات الأزمات فى التاريخ. ولا أدعى أننى أراه الآن، وإن كنت أتمنى أن أراه، وإذا ظهر فسوف يجد له ألوف التابعين، ولكن من المؤكد أن حماره سوف يجد أكثر من ثلاثين مليونا، مدد يا شيخ عبد السلام مدد».
هل هذا هو.. الأنيس منصور؟
وأما الدرس الثانى فى عالم السياسة فقد تلقاه أنيس منصور عندما انتقل مع الأستاذين على أمين ومصطفى أمين إلى دار الهلال، فقد كتب مقالا يقارن بين «الوحدة والعزلة»، وكان مقالا فلسفيا نفسيا، ولكن الذى لم يخطر على باله أن الرئيس عبد الناصر قد وجد فى هذا المقال أيضا تعريضا به وسخرية بالوحدة مع سوريا، والانفصال عنها، ولذلك أمر بمنعه من الكتابة وفى أثناء ذلك دعاه د.محمد عبد القادر حاتم وزير الثقافة والإعلام للقائه، ولما ذهب قال له: إن الرئيس قد أمر بأن تعود إلى الكتابة، ولما سألت د.حاتم ولكن لماذا منعنى من الكتابة؟ فتضايق من ذلك قائلا: لقد أمر الرئيس أن تعود إلى الكتابة وهذا كل ما عندى، ولما عدت إلى سؤال د.حاتم بعد وفاة الرئيس عبد الناصر: ولكن لماذا منعنى؟ فأقسم أنه لا يعرف.
صداقة قوية مع علي أمين
وقبل ذلك تلقى خطابا رقيقا من المرحوم على أمين وكان وقتها فى طوكيو، يدور حول العالم سنة 1959 جاء فى الخطاب: «إن الرئيس جمال عبد الناصر قرأ مقالك المنشور فى (أخبار اليوم) عن نظام (الشيوعيات) الصغيرة فى الصين، فأعجبه جدا، وقال إنه مقال سياسى ممتاز فلماذا لا يكتب فى السياسة؟».
وفى واشنطن قابل رئيس هيئة الاستعلامات وكان مريضا فى أحد المستشفيات وقال له: «إن الرئيس جمال عبد الناصر قد كتب بقلمه على هذا المقال إنه مقال سياسى رائع».
عبد الناصر: هو انت؟
ويتذكر أنيس منصور فى هذا السياق أنه فى سنة 1963: ذهبت لتلقى جائزة الدولة فى أدب الرحلات من الرئيس جمال عبد الناصر، ولما اقتربت منه كانت له نظرة فاحصة، أو هى نظرته العادية، لا أعرف ثم سمعته يقول:
- هوه إنت؟
ولم أفهم المعنى المقصود من ذلك، ولكنى فى أحد الأيام روى لى المرحوم يوسف السباعى أن الرئيس عبد الناصر سأله إن كنت شيوعيا؟ وكان رد يوسف السباعى الشيوعى أنيس آخر، عبد العظيم أنيس، وليس أنيس منصور، ربما أدى هذا الخلط بين الاسمين إلى أن يكون للرئيس عبد الناصر موقف خاص فى ما أكتبه، وفى يوم أخبرنى الصحفى اللبنانى الكبير سعيد فريحة أنه التقى الرئيس جمال عبد الناصر وتحدث فى عودة الأستاذين مصطفى أمين وعلى أمين إلى مكانهما من «أخبار اليوم» بدلا من وقفهما عن العمل، فقال له: بل لا بد من إذلالهما. وحتى هذا الأنيس منصور اللى طالعين به السماء، قد فصلته هو أيضا، وظل الشك يلاحقنى فى كل الذى أكتبه فى السياسة، أو يكتبه غيرى فى مجلة «الجيل»، التى أرأس تحريرها، فأنا لا أعرف أين يقع هذا الذى أكتبه إذا سمح بنشره من نفس الرئيس عبد الناصر أو الذين حوله.
التى جعلتنى كاتبًا سياسيًّا
الحقيقة الفنية والتاريخية فى حياة أنيس منصور تؤكد أن نكسة سنة 1967 هى التى جعلته كاتبا سياسيا، بل فاجأته فجعلت الفلسفة أبعد عن قلمه، وإن كان الأدب والتاريخ وعلم النفس هى المداد والدم والعرق، الذى يمزج به كل ما كتب بعد ذلك: «فقد بدأت الصدمة الكبرى بأن ذهبت إلى الجبهة فى الأيام الأولى من شهر يونيو سنة 1967، ورأيت وسمعت وانبهرت وتوقعت أن النصر لنا لا شك فى ذلك، وقد جمعت قصائد الشبان وخطبهم ووعدت بنشرها، وامتلأت عينى وأذنى وعقلى وقلبى، وأصبحت مثل مدفع سريع الطلقات، قد أعد إعدادا تاما لينطلق فى أى لحظة ضد العدو اليهودى، وكنت آخر الذين عادوا من الجبهة يوم 5 يونيو، أو آخر مدنى قد عاد، فقد دعانى الفريق صدقى محمود إلى طائرته، لتكون النكسة بعد ذلك بساعات، وليكون كل الذى رأيناه ترابا، والذى سمعناه صدى، والذى توقعناه سرابا، وليكون يوم النصر هو يوم الهزيمة، وليكون جمال عبد الناصر ذلك البطل المصرى القومى، هو الزعيم الذى هوى، والفراغ السحيق الذى امتلأ بالألم واليأس والشك والذل والهوان، وليكون أيضا هو الذى أجهز على الروح المصرية يوم قرر أن يتخلى عن الرياسة والزعامة، تماما كما يقرر قائد الطائرة أن يقفز بالمظلة، بسبب الخلل التام فى المحركات، ثم يترك الطائرة والركاب وينجو بنفسه جريحا مهينا، فتكون نجاته بالمذلة لا بالمظلة، وقد أدت الهزيمة إلى غيابه نهائيا فى غياهب الهوان العسكرى، والعار المصرى، والشماتة العربية.
أنيس: اعرف عدوك
هذه المعانى وغيرها قد هزته من أعماقه، ودفعته إلى الاعتقاد بعدد من الحقائق فى مقدمتها، أننا حاربنا عدوا لا نعرفه وحاربنا عدوا يعرفنا تماما، فكان لنا ما نستحقه وكان له ما يستحقه، ولذلك لا بد أن نعرف عدونا.
فى ضوء هذا الاعتقاد رفع أنيس منصور شعار «اعرف عدوك»، فراح يكتب عن اليهود فى التاريخ كله، وعن إسرائيل وكيف قامت، وما الذى تريده الصهيونية العالمية من العرب ومن العالم كله، ومن مصر بصفة خاصة، وكتب مئات المقالات فى «أخبار اليوم، والأخبار، والجيل، وآخر ساعة»، وهى مقالات كانت أقرب إلى دراسات متعمقة للبيئة اليهودية والكيان الصهيونى، ولم يكتف بذلك بل جمع الكتب التى صدرت عن اليهود والتاريخ اليهودى والصهيونية وإسرائيل باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، وشكل منها معرضا تنقل به بين المحافظات المصرية والعواصم العربية، ثم أصدر هذه المقالات فى ثلاثة كتب هى: «الحائط والدموع» و«الصابرا.. الجيل الجديد فى إسرائيل»، و«وجع فى قلب إسرائيل».
إسرائيل.. قضية القضايا التى شغلت أنيس منصور
وصار الأمر قضية القضايا التى شغلت أنيس منصور فى الصحف وفى الإذاعة وفى التليفزيون، وعضد من هذا الانشغال العميق والجماهير موقفان، أحدهما: أن واحدا من الجنود قال له بمنتهى السذاجة إننى لم أرَ إلا عددا من الخواجات، ولم يخطر على باله أن اليهود «خواجات»، لأنهم قد جاؤوا من كل دول العالم ليحتلوا بالقوة أرضا ليست لهم، وثانيهما أنه آمن بما قاله المؤرخ البريطانى أرنولد توينبى عن أن الدولة اليهودية فى قلب العالم العربى لا يمكن أن تعيش طويلا، فليس لها نظير فى كل التاريخ، لا بد أن تنقرض، لأنه مستحيل أن تعيش فى سلام، لا فى سلام داخلى بين جميع الطوائف والأجناس اليهودية، ولا فى سلام مع العرب حولها. ثم إن اليهود بسبب تاريخهم الطويل، ليس لديهم شعور بالأمان، وعدم الأمان يدفعهم إلى الشك، والشك يدفعهم إلى سوء الظن بكل الناس، وسوء الظن يدفعهم إلى الكراهية، والكراهية أم الحروب، فهم يحاربون لا لأنهم يريدون الموت.
اليهود أول من يقفز من السفينة إذا غرقت
وكان من رأى أنيس منصور أن العالم كله قد اتخذ موقفا واحدا من اليهود، وهذا الموقف هو سوء الظن بهم، لأنهم حريصون على الانطواء والانزواء والاستفادة من المجتمع الذى يأويهم دون أن يكلفوا أنفسهم شيئا فى التضحية من أجله، فهم هكذا استغلاليون أو متطفلون، وهم أول من يقفز من السفينة إذا غرقت، وأول من يتحالف مع العدو والقوى ضد أى شعب يعيشون فيه، ثم إنه لا ولاء عندهم لأحد، وإنما لدينهم وشعوبهم ولإسرائيل، «وانتهيت إلى أنه لا سلام مع إسرائيل وأن إسرائيل إذا كانت قد انتصرت على مصر والشعوب العربية فلا بد من الانتقام، أى لا بد من حرب بعد حرب، فالسلام مع إسرائيل مستحيل، لأنهم لا يريدون السلام، وهم لا يريدون السلام، لأنه مستحيل عليهم أن يعرفوه. انظر إلى كل تاريخهم فى العالم وفى هذه المنطقة. ثم كتبت عن عشرات من الكتب تؤكد هذه المعانى، وقد ظهرت فى إسرائيل وفى أمريكا وفى بريطانيا كتب عن العلاقات المصرية الإسرائيلية، وكلها تهاجمنى وتنقل عنى ما كتبته بعد النكسة.
من المفارقات أن هذه القناعة ستظل تلازم أنيس منصور حتى بعد توقيع معاهدة السلام 1979، وإلى ساعة رحيله، على الرغم من الرحلات المكوكية التى كان يقوم لها بين القيادة السياسة المصرية وحكام الكيان الصهيونى، وسردها فى كتابه الذى عنونه باسم «مشوارى السرى» ولم ينشر بعد، نظرا لخطورته.
بعد معاهدة السلام أدرك منصور أن المستحيل أصبح ممكنا
فى أعقاب النكسة العنيفة الموجعة 1967، كان رأيه أن السلام مستحيل مع إسرائيل، ولكن بعد أن تمكن الرئيس السادات من أن ينتصر فى حرب أكتوبر، وأن يفك الاشتباك بيننا وبين إسرائيل مرة ومرتين، ثم أن يبادر بالسلام، ثم بالاتفاق بين البلدين، فوجئ بأن شيئا كنت أراه مستحيلا قد أصبح ممكنا، وفوجئت بأن أمامنا فرصة جديدة لنعرف إسرائيل بلا حرب، حتى لا تقع حرب، وإذا وقعت فلن نكون الجهلاء الذين ذهبوا فلم يروا ولم يسمعوا، وعادوا يقرؤون ما يكتبه اليهود عن الذى حدث ليعرفوا ماذا جرى لنا، ولكن بأقلام وعيون الآخرين أعدائنا. وما دام السلام المستحيل أصبح ممكنا، وما دام قد أصبح حقيقة، فلا بد أن نعترف بما حدث، وأن نسعد بذلك، وأن نرى الصعوبات الكثيرة التى تواجهنا أمرا طبيعيا، فالسلام أيضا صعب كالحرب، وإن كانت الحرب أقصر عمرا وأعنف أثرا، ولكن مصر التى حاربت وانتصرت، هى التى سالمت وانتصرت أيضا. ولم تستوعب الدول العربية الشقيقة ما حدث ولم يكن أحد يتصور أن شيئا من ذلك سوف يحدث، والموقف غريب وعجيب ولكنه أصبح ممكنا.
لكن أنيس منصور لم يشعر بأن انتصار السلام هزيمة له، فهو لم يكن يدعو إلى الحرب، ولكن كان يرى الحرب ضرورة، فكانت الحرب وكانت عملية السلام، إلا أن أنيس منصور قال لى فى مرحلته العمرية الأخيرة إن السلام سيظل مستحيلا.
كيسنجر.. الداهية الأمريكية الصهيونى الهوى والنزعة
وكنت أذكره دائما فى سياق حواراتنا بتعبير الداهية الأمريكية الصهيونى الهوى والنزعة وزير الخارجية هنرى كيسنجر، وهو يصف ما يجرى بين مصر وإسرائيل بأنه «عملية السلام» وليس السلام، وكان لا يزال يعتقد أن السلام مع مصر هو سلام ناقص، لأن السلام يجب أن يكون كاملا، ولا يكون السلام كاملا إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، فإذا لم تقم اليوم أو غدا أو بعد عشر سنوات أو عشرين، فالسلام مؤقت، فنحن قد ارتضينا السلام خطوة نحو هدف، الهدف هو السلام الشامل مع كل العرب، ولا يكون السلام شاملا إذا لم يكن للشعب الفلسطينى دولة، تماما كما أن الشعوب اليهودية أقامت لها دولة، وليس من العدل أن يقال للشعب الفلسطينى لا تقل آه إذا ضربك اليهود، بينما ملأ اليهود الدنيا صراخا عندما ضربهم هتلر، وعندما طردتهم الشعوب الأخرى، وهذا كلام ثقيل وموجع، ولكن هذا هو طعم الحقيقة، اليوم وغدا، ولذلك فإننى أعتبر نفسى «أحد الجيوب» التى قاومت الاحتلال الإسرائيلى لسيناء، وأن مقاومتى اتخذت شكل المقالات العنيفة والكتب الملتهبة، وقد انغمس قلمى فى مرارة الهزيمة ونار الانتقام.
المشكلة التى تواجه أديب السياسة هى أن لا يفقد حماسته الأدبية تحت ضغط الأحداث العنيفة المستمرة وفى الوقت نفسه أن لا تغرقه السياسة فينسى خط البداية
الفلسفة.. أحلام الملوك
الإشارة الأخرى التى يمكن استقطارها كإضاءة للعلاقة بين الكاتب الأديب والسياسى صانع القرار، تتمثل فى معتقد أنيس منصور بتغير أساليب الكتابة عن المذاهب السياسية فى تطورها، فقد كان من أحلام الملوك أن يكونوا فلاسفة، وكان من أحلام الفلاسفة أن يكونوا ملوكا، ويستحسن أن نبحر قليلا فى هذه العبارة البليغة المشعة بالكثير والغزير من المعانى.
كان الإسكندر يحلم بأن يكون مثل أستاذه الفيلسوف أرسطو، وكان من أحلام الفيلسوف أرسطو أن يكون مثل تلميذه الملك الإسكندر الأكبر، فصاحب الفلسفة يحلم بالقوة التى تجعله يرى أفكاره حقيقة واقعة، وصاحب القوة يريد أن يضيف إليها نور العقل الذى يهديه إلى تحقيق ما يريد، وقد حاول فلاسفة كثيرون أن يكونوا ساسة، فأفلاطون حاول أن يطبق مدينته المثالية فى إحدى الجزر وفشل، والفيلسوف توماس مور أعدموه، والفارابى فيلسوف العرب كفروه.
أنيس: من النادر أن تلتقى الفلسفة والسلطة
ولكن فلاسفة عقلاء حكماء رأوا أن المسافة بعيدة جدا بين ما يفكرون فيه وبين ما يقدرون عليه، فرفض الفيلسوف الإيطالى كروتشه أن يكون رئيسا للجمهورية، ورفض الرياضى الكبير آينشتين أن يكون رئيسا لإسرائيل، ورفض العالم الفلسفى لطفى السيد أن يكون رئيسا لمصر.
ومن النادر أن تلتقى الفلسفة والسلطة، فلم يفلح الفيلسوف الثورى كارل ماركس أن يكون له سلطان، فى حين أفلح لينين فى أن يكون الفيلسوف الملك، وكذلك ماوتسى تونج. وحاول فولتير عندما وقف إلى جانب الإمبراطور الألمانى فريد ريش الأكبر، وحاول الفيلسوف الهولندى أرازموس برسائله إلى كل الرؤساء والملوك، فإن لم يكن واحدا منهم، فقد حاول أن يكون قريبا منهم.
كان الإسكندر يحلم بأن يكون مثل أستاذه الفيلسوف أرسطو
ولكن الأديب الفرنسى كوكتو قد حقق هذا المستحيل، عندما صنع لنفسه عملة ذهبية جعل على وجه منها الإسكندر الأكبر، وعلى الوجه الآخر أرسطو، أى أن الملك والفيلسوف لم يلتقيا إلا مرة واحدة على هذه العملة الذهبية، التقيا وجهين لرأسين، وليس وجها واحدا لرأس واحد.
ففى عصر النهضة الأوروبية مثلا كانت الاهتمامات الأولى لكل المفكرين إنسانية، أى كان الاهتمام بالإنسان صانع كل شىء والهدف من كل شىء، ومركز الكون فقد كانوا يرون أن الكرة الأرضية هى مركز الكون، والإنسان هو سيد الأرض، إذن فهو سيد الكون، وما خلق الله السموات والأرض إلا لكى يتفرج عليها الإنسان إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
كل العلاقات الإنسانية معادلات كيميائية
ولكن ابتداء من القرن السابع عشر حتى التاسع عشر، خضع الفكر الإنسانى كله للعلوم الجديدة والعلوم الجديدة هى العلوم المادية، الفيزياء والكيمياء فكل شىء مادة، وهذه المادة لها وزن وحجم وكثافة وحرارة وأشكال تتغير حسب التفاعلات المختلفة، فالفيزياء أساسها المادة، والكيمياء أساسها تحول المادة من صورة إلى صورة، ولكن حركة المادة مضبوطة، أى أن هناك قواعد رياضية لحركة المادة، وعلى ذلك فالمثل الأعلى للفكر الإنسانى أن يكون ماديا محدودا واضحا، وأن يكون بسيطا مثل المعادلات الرياضية، ولذلك فالكون كله عمل هندسى، ساعة لها عقارب، والله هو المهندس الأعظم، أو أن الخلق ليس إلا معادلات كيميائية أبدعتها أصابع الله، دون تدخل من الإنسان، أى أن الإنسان ليس مركز الكون، إنما هو واحد من المخلوقات، أو صورة من صور تطور المخلوقات من المادة إلى الحيوان إلى الإنسان.
وأصبحت كل العلاقات الإنسانية معادلات كيميائية، كل العواطف كيمياء، كل التغيرات والتطورات والثورات كيمياء، ففى التفسير المادى للتاريخ نجد هذه القاعدة التراكمات الكمية تؤدى إلى كيفيات جديدة، ومعناها أننا إذا رفعنا درجة حرارة الماء درجة، فإنه يتحول إلى بخار، أى تراكم درجات الحرارة يؤدى إلى خلق كيفية جديدة هى البخار، وكذلك كل المواد وكل العلاقات المادية بين الناس، فالظلم المستمر يؤدى إلى الثورة، والتسبب المستمر يؤدى إلى الانحلال، تماما كما يذوب الجليد فيصبح ماء أو كما يذوب الحديد فيصبح سائلا وهكذا.
السياسة هى سيدة العلوم الأخرى
ولكن ابتداء من الثورة الفرنسية والأمريكية والسوفييتية والانقلابات العسكرية التى أدت إلى تحرير الشعوب من الاستعمار والاستغلال، أصبحت السياسة هى سيدة العلوم الأخرى.
وفى القرن العشرين أصبحت السياسة هى العلم الذى «يسود» العلوم الأخرى، فكما كانت الطبيعة سيدة علوم القرن الثامن عشر، والرياضة سيدة علوم القرن التاسع عشر، والفلك سيد علوم القرن العشرين، فإن السياسة أيضا سيدة العلوم كلها، بما فيها الفلك، فالتنافس بين السوفييت والأمريكان على الكواكب الأخرى، ليس علما بالدرجة الأولى، ولكنه سياسة تماما، فكل منهم يحاول أن يثبت أن مذهبه فى السياسة هو الذى أدى به إلى بلوغ القمر أولا، وإنزال إنسان عليه وإعادته.
كان أرسطو يرى أن الإنسان حيوان سياسى.. أى أنه حيوان أولا ثم يحاول أن يتحكم فى غرائزه الحيوانية بالسيطرة عليها.. وهذه السيطرة هى السياسة
وكان أرسطو يرى أن الإنسان حيوان سياسى، أى أنه حيوان أولا، ثم يحاول أن يتحكم فى غرائزه الحيوانية بالسيطرة عليها، وهذه السيطرة هى السياسة، على حين كان أستاذه أفلاطون يرى أن الإنسان حيوان ناطق، أى أن الفرق بين الإنسان والحيوان هو النطق أو هو التفكير، ولكن السياسة الحديثة ترى أن الإنسان سياسى حيوان، أى أنه سياسى أولا، ثم إنه حيوان بعد ذلك، أى أنه يفرز قواعد السلوك، ثم يتمسك بها بصورة حيوانية، أو يحطمها بصورة حيوانية، فالإنسان مثل دودة القز، يفرز سريره الذى يصبح نعشه بعد ذلك، أو أنه يريد أن يقول إن الإنسان سياسى أولا، وحيوان أو إنسان بعد ذلك، فهو ولد فى مجتمع، والمجتمع قد سبقه إلى الحياة، أى أن الإنسان كما يقول كارل ماركس قد ولد فى ظروف سبقته إلى الوجود، سبقته بالاسم والدين والجنس والعنصر والطبقة والمشكلات، ولذلك ما دام هكذا غارقا فى أوضاع وظروف اجتماعية ودينية واقتصادية وطبقية، فهو لا يمكن إلا أن يكون سياسيا.
ولذلك لم يعرف العصر الحديث إلا أدباء وفلاسفة فى السياسة، ولأنهم حريصون على أداء هذا «الواجب» أو الوفاء بهذا الالتزام الفكرى والوطنى والقومى، فلا بد من أن يكونوا على صلة بالجماهير فى الصحف والإذاعة، فليس بين جميع الكتاب الكبار من لم يكتب فى الصحف والمجلات، أو لم يصدر الصحف والمجلات، لأنه لكى يكون سياسيا، أو مشتغلا بالسياسة أو منشغلا بها، فلا بد من أن يضع أصابعه على نبض الناس على نبض الآخرين، الذين يكتب لهم ويقف متهما بينهم، ولأن الكاتب السياسى يلتقى بالقراء فى الأندية والمؤسسات، فليس فى حاجة إلى أن يتخيل حوارا معهم، لأنه يحاورهم فى حين أن الكاتب الذى اختار أن يرى من بعيد وأن يسمع، كذلك فإنه يفعل ما فعله سقراط يجرى حوارا بينه وبينهم أو يتخيل ذلك.
برتراند راسل يتظاهر ضد الأسلحة النووية
والفيلسوف العظيم برتراند راسل قد استغرقته السياسة فى آخر أيام حياته بصورة مؤلمة، فقد كان وهو فى الثمانين من عمره يتظاهر ضد الأسلحة النووية، وما كان أغناه عن ذلك، يكفى وزنه الأدبى العالمى، ولكنه عندما سئل عن ذلك قال لم أعد قادرا على الكتابة، وفى الوقت نفسه لا أستطيع أن أتحدث إلى نفسى كما كان يفعل القديس أوغسطين فى اعترافاته، أو جان جاك روسو فى هذيانه وشذوذه، فأنا أريد أن أجعل حوارى مع الشباب عضويا، أزاحمهم فى المظاهرات ويزاحموننى أيضا.
سارتر حاول أن يكون له حزب سياسى ولكنه فشل
ولذلك كان الفيلسوف الوجودى سارتر يكتب القصص والمسرحيات، وعندما توقف عن الإبداع الفنى، راح يتزاحم بجسمه المريض فى مظاهرات الشباب، وعندما حاول أن يكون له حزب سياسى، كان حزبه نموذجا جديدا لفشل الفيلسوف، إذا أراد أن يكون حاكما، فليس من الضرورى أن يكون صاحب المذهب الفلسفى، هو رئيس الحزب السياسى، أى يكون الفيلسوف والملك معا، ولذلك كانت لكثير من الأحزاب فلاسفة لا يظهرون فى الصفوف الأولى من السلطة، كان سوسلوف فيلسوف الاتحاد السوفييتى، وكذلك كان ألفرد روزنبرج فيلسوف النازية، والشاعر داتسيو فيلسوف الفاشية، وإذا ظهر فلكى تكرمه الدولة فقط، دون أن تلزمه بأعباء الملك والسيطرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.