الأسد البريطانى الجريح يقاتل من أجل أن لا ينفرط عقد المملكة المتحدة. الدنيا كلها تحبس أنفاسها انتظارًا لنتيجة الاستفتاء على استقلال اسكتلندا، الذى سيجرى غدا. حمى الاستقلال تجتاح اسكتلندا بعد أكثر من 400 سنة على بدء الوحدة بين مملكتى اسكتلندا وإنجلترا! الاسكتلنديون يشعرون أنهم مهمشون فى بريطانيا، ويريدون الحصول على حريتهم. ومع أن الاسكتلنديين أنفسهم طرحوا خيارات كثيرة لتصحيح العلاقة مع لندن، إلا أن رئيس الوزراء الحالى ديفيد كاميرون أتاح لهم خيارين فقط، إما القبول بالوضع الراهن وإما الاستقلال من خلال استفتاء يقرر فيه الاسكتلنديون مصيرهم. وهم سيخرجون غدا الخميس ليقولوا كلمتهم فى الاستفتاء. «الإمبراطوية التى لا تغرب عنها الشمس»، تغيب شمسها رويدا رويدا! وهى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فى أفول مستمر. الآن لم يتبق للتاج البريطانى سوى المملكة المتحدة، التى تضم إنجلترا وويلز واسكتلندا وشمال أيرلندا، إضافة إلى عدد من المستعمرات ومحميات التاج البريطانى حول العالم وأهمها الجزر المنتشرة فى القنال الإنجليزى، التى كانت من قبل موضع صراع بين بريطانيا وفرنسا، وهى مناطق حُرة لا تخضع للضرائب، وجزيرة أيل أوف مان، ومستعمرة جبل طارق فى إسبانيا، التى لا تزال تخضع للتاج البريطانى حتى اليوم، وجزر فوكلاند فى جنوب الأطلنطى، التى قاتلت بسببها مارجريت تاتشر عام 1982 لاستردادها من الأرجنتين. وقد خسرت بريطانيا من قبل الهند التى كانت تسمى درة التاج البريطانى، ومحميات الخليج العربى الغنية بالنفط، وقاعدة قناة السويس، وأخيرا خسرت هونج كونج بعد صراع دبلوماسى مرير صبر فيه الصينيون حتى استردوها من الإنجليز فى ثمانينيات القرن الماضى. وقبلهم جميعا خسرت بريطانيا مستعمراتها فى أمريكا الشمالية المعروفة بالولايات المتحدة حاليا! وتشير استطلاعات الرأى العام إلى أن اسكتلندا مقسومة نصفين تقريبا بين المؤيدين والمعارضين للاستقلال. الفارق بين المعسكرين يبلغ نحو نقطة مئوية واحدة فقط! لكن محتوى الدعاية التى يقودها السياسيون فى لندن، وعلى رأسهم أليستر دارلنج، وزير الخزانة الأسبق، وأحد أهم قيادات حزب العمال، تنطلق من حملات تخويف للاسكتلنديين من خطر الاستقلال على الاقتصاد. وفى مقابل ذلك فإن المعسكر المقابل الذى يقوده القوميون الاسكتلنديون يضع كرامة الإنسان، وشعوره بعزته فى المقدمة قبل أى شىء آخر. حزب العمال أكثر من المحافظين يشعر بالخطر، لأن 40 من نوابه فى مجلس العموم حاليا يمثلون اسكتلندا «من بين 59 مقعدا للاسكتلنديين فى مجلس العموم». وإذا استقلت اسكتلندا، فربما يصعب على حزب العمال أن يحصل بسهولة على أغلبيبة مقاعد مجلس العموم، ومن ثم للحكم لعقود مقبلة. الخسارة بالنسبة للعمال إذن ستكون فادحة فى حالة استقلال اسكتلندا حزب المحافظين لكن يكون فى موقع أفضل، بل إن خروج اسكتلندا ربما يقود إلى خروج بريطانيا بالكامل من الاتحاد الأوروبى. وسوف يؤدى ذلك إلى وضع علامات استفهام كبيرة على «الديمقراطية البريطانية» التى لا تزال تعتبر حتى الآن واحدة من أعظم الديمقراطيات فى العالم. سوف تسعى كل من أيرلندا الشمالية وويلز إلى الحصول على سلطات أكبر، مما يعزز قوة الأحزاب القومية فيها على حزب المحافظين، وسوف يعود المحافظون كى يصبحوا حزبا «إنجليزيا» فقط يعبر عن مصالح الأرستقراطية الإنجليزية، خصوصا تلك المتمركزة فى جنوبإنجلترا. بعد الاستفتاء، وفى كل الأحوال، سواء كانت النتيجة ب«نعم» أو ب«لا» على استقلال اسكتلندا، لن تعود السياسة البريطانية إلى ما كانت عليه. اقتصاديًّا تدور ماكينة الشركات والبنوك والمؤسسات العالمية ضد استقلال اسكتلندا! مديرون فى البنك الملكى الاسكتلندى ونوميورا اليابانية وباركليز وغيرها قالوا إنهم سيعيدون النظر فى عملياتهم داخل اسكتلندا، إذا هى استقلت عن بريطانيا. المملكة المتحدة نفسها لن تتأثر من ناحية وزنها النسبى فى الاقتصاد العالمى، ستظل تحتل المركز السادس بين أكبر اقتصادات العالم. لكنها ستفقد قوتها النفظية. فالنفط البريطانى كله يقع فى اسكتلندا، وفى مياهها العميقة. لكن شركات النفط والغاز البريطانية لا تعتمد فقط على مصادر النفط والغاز فى اسكتلندا، إنما هى تمتلك احتياطيات عائمة ومخزونة فى باطن الأرض حول العالم. ربما يفقد الإسترلينى بعض قوته، لكن الاسكتلنديين حتى الآن يؤكدون أنهم سيحتفظون بالاتحاد النقدى مع إنجلترا، وسيتعاملون بالإسترلينى. اعتقادى أن هذا الموقف تكتيكى، لأن اسكتلندا تترقب بفارغ الصبر أن تتقدم لعضوية الاتحاد الأوروبى كدولة مستقلة، ومن ثم فإنها عند حصولها على عضوية الاتحاد ستكون مخيرة بين البقاء فى منطقة الإسترلينى الضيقة أو الدخول فى منطقة اليورو الواسعة. وأظن أن إحدى المشكلات التى فجرت قضية الاستقلال تتمثل فى حجم الدين العام لبريطانيا ومدفوعاتها للاتحاد الأوروبى، التى لا تعود على الاسكتلنديين بالفائدة. وأظن أن اسكتلندا فى حال الاستقلال فى 24 مارس 2016، طبقا للجدول الزمنى المطروح من جانب القوميين، إذا جاء التصويت ب«نعم» فى استفتاء 18 سبتمبر 2014 (غدا) فسوف تتقدم بعد ذلك بطلب لعضوية كل من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبى وحلف الأطلنطى. العالم يتغير! «الإمبراطوية التى لا تغرب عنها الشمس» تغيب شمسها رويدا رويدا!