كنت أجلس فى مكتب سكرتارية مدير المستشفى أنتظر تقريرا طبيا، وكانت تجلس أمامى إحدى الطبيبات، يبدو أنها تنتظر هى الأخرى شيئا ما، كانت السكرتيرة تكتب على الكمبيوتر، وكانت الطبيبة تنقر بأحد أصابعها نقرة خفيفة على المكتب، وكنت أراقبهما. همست السكرتيرة «رحتى إمبارح التحرير ». ردت الطبيبة «مشيت من مسجد الاستقامة مسيرة استمرت لمدة ساعتين أو تلاتة ماحسيتش لا بالوقت ولا بالمسافة، وبعدين ماعرفتش أدخل التحرير من الزحام قعدت فى نهاية كوبرى قصر النيل عند الأسد أتفرج على منظر المسيرات وهى داخلة من كل جهة، وقابلت كل الناس اللى أعرفهم، واللى ماعرفهومش اتعرفت عليهم». قالت السكرتيرة «أنا رحت الميدان من بدرى، لأنى كنت عارفة إن ممكن الزحمة تمنعنى من الدخول». الطبيبة «يا سلام ليه بتنجمى ولا إيه؟!، ولا حد فى مصر يابنتى كان متخيل إن الأعداد دى كلها هتنزل، إنتى نفسك ماقلتيش إنك ناوية تنزلىه». السكرتيرة «وأقول ليه؟ ده بديهى، وأيوة أنا كنت عارفة إن الميدان هيبقى زحمة، اللى ماكنتش متخيلاه المسيرات، لما شفت الصور على الكمبيوتر بعد ما روحت، ولا الصور فى جرايد النهاردة، حاجة فوق الخيال». الطبيبة «أنا اتصورت إن الناس هتخاف أو هتتأثر بالتشويه». السكرتيرة ضاحكة وناظرة فى اتجاههى كأنها تطلب منى التعليق «فاكرة نفسها أنها الوحيدة اللى بتفهم واللى مابتخافش، خلاص يا دكتورة، ماحدش بيخاف، بعد كل اللى شفناه ماحدش بيخاف». أومأت برأسى موافقة. الطبيبة قررت أن تستميلنى إليها فقالت «حضرتك كنت متصورة إن الناس لسه مع الثورة كده؟، حضرتك مش طول الوقت بيقولوا آدى اللى خدناه من الثورة؟». قلت «أيوه عندك حق». انتهت السكرتيرة من كتابة التقرير وتحركت فى اتجاه باب حجرة المدير، وتوقفت أمامى لتقول لى حكمة اليوم «لو سبتى الناس تتكلم الأول عمرك ماهتقدرى تقنعى حد بوجهة نظرك، لأن الناس بعد لما بتقول رأى مابتحبش ترجع فيه، أما لو بدأت إنتى وقلتى رأيك بيبقى فى احتمال كبير إن اللى بتكلميه يوافق على كلامك -وأشارت إلى مكتب المدير- حتى ده». وتركتنا ودخلت لتحصل على توقيع المدير على التقرير. فأكملت الطبيبة ما بدأته «هنا فى المستشفى كلهم كانوا بيقولوا إن البلد هتولع، والدليل الاستعدادات اللى بتحصل فى المستشفيات، وأنا كنت باقول لهم لو الشرطة والجيش ماضربوش مافيش أى حاجة هتحصل، يقولوا البلطجية والمندسين، يا ساتر بيصدقوا بجد. ده حتى حواجز الأسمنت اللى فى الشوارع ماحدش قرب منها رغم أن ربع العدد اللى نزل إمبارح كان ممكن يشيل الحواجز دى، وبرضه الصبح أول ما ركبت التاكسى السواق قالى البلد خربت». عادت السكرتيرة واستمعت إلى الجملة الأخيرة فردت عليها «لو كنتى أول ماركبتى التاكسى قلتى له الملايين اللى نزلوا إمبارح دليل على أن الثورة مستمرة، كان قالك أصل النظام لسه ماسقطش، وبعدين أحسن ماتركبيش تاكسيات، اشترى لك عربية من التمويل الخارجى!!». ضحكنا معا. فتجرأت الطبيبة وسألتنى «هو حضرتك مش بتقولى رأيك ليه؟ هو حضرتك نزلتى إمبارح ولا إيه؟». قلت لها «أنا كنت معاكى فى مسيرة مسجد الاستقامة، وكنت طول الوقت بحاول أكون جنب الشباب اللى انضموا من الهرم وكانوا شايلين نعوش». لم تسمح لى الطبيبة بأن أكمل حكايتى فقامت واحتضنتنى وقبلتنى. ضحكت السكرتيرة «طيب والله لأصلى الجمعة فى مسجد الاستقامة».