رغم أن حياة الكاتب والأديب مصطفى صادق الرافعى الثرية بالكتابة والقصص والفاعليّات المهمة، فإن ذاكرة الأجيال لا تتذكره إلا بمعركته مع العقاد، وكتابه الشهير اللافت «على السفود»، والذى «شوى» فيه الكاتب الجبّار عباس محمود العقاد، وكان العقاد كذلك قد مزَّق الرافعى تمزيقا، وكذلك الناس يتذكرون معركته مع الدكتور طه حسين حول كتابه «فى الشعر الجاهلى» عام 1926، وقد كان كتاب «تحت راية القرآن» للرافعى من الكتب الأولى التى ناقشت، بل هاجمت وفنَّدت كتاب طه حسين، وكان الكتاب قاسيا جدا، وفيه تطاول شديد الرعونة على الكتاب ومؤلفه طه حسين، وعدا كتاب «على السفود»، وكتاب «تحت راية القرآن»، فذاكرة الأجيال تتعثر فى استدعاء درر ولآلئ مصطفى صادق الرافعى، وربما لا تريد أن تذكر سوى الأحداث الجسام التى تسم ذاكرتنا العربية المدججة بالصولجانات والصخب والمعارك الحربية، وأعتقد أن مؤرخى الثقافة والأدب والسياسة، يتوقفون عند هذه المعارك كثيرا، لأنها تجذب قارئا وناقدا، هذا القارئ الذى تعوَّد على ثقافة ال«توك شو»، وأهمل كثيرا المتون الثقافية والأدبية الرقيقة والرفيعة القيمة، حتى كتابات ال«بيست سيلر»، المعاصرة تنحو نحو هذا المنعطف، فتجلب لنا المدهش والمثير، والذى يغطى على قيمة «العادى»، و«المألوف»، فالعادى والمألوف لهما دهشتهما كذلك. هذه المقدمة التى طالت قليلا، وكان لها أن تمتد أكثر من ذلك، لولا ضيق المساحة، استدعتها كتابات مصطفى صادق الرافعى الفكرية والعاطفية والأدبية، والتى تضمنتها كتبه «أوراق الورد»، و«رسائل الحزن»، و«وحى القلم» بأجزائه الثلاثة، وغيرها وغيرها من كتابات أخرى، وفى هذا المجال لا بد أن نذكر مصطفى صادق الرافعى كاتب القصة الذى أهمله النقد الفنى بضراوة، ولم يدرج الرافعى بين كتّاب القصة المشهورين مثل المازنى وتوفيق الحكيم وطه حسين وغيرهم من أعلام النصف الأول من القرن العشرين، وكان الرافعى يكتب بشكل أسبوعى فى مجلة «الرسالة» منذ نشأتها فى عام 1933، حتى رحيله فى فجر يوم 10 مايو 1937، وها هى قطعة أدبية رفيعة الأسلوب، ومشحونة بالمعانى، وقصة لافتة النظر، منشورة فى مجلة «الرسالة»، وفى العدد الصادر فى 13 أغسطس عام 1934، ويسلك فيها الرافعى أساليب كتّاب القصة المحترفين، وعنوان القصة هو «قصة أب»، يبدؤها الرافعى بتقنية صارت معروفة فى ما بعد، وهى رواية القصة على لسان شخص آخر، فيقول: «حدَّثَنى المسكين فى ما حدّث وهو يصف ما نزل به قال: رأيت الناس قد أنعم الله أن يكونوا آباء فنسأ بالولد فى آثارهم، ومدّ بالنسل فى وجودهم، وزاد منه فى أرواحهم أرواحا، وضمّ به إلى قلوبهم قلوبا، وملأ أعينهم من ذلك بما تقرّ به عين قرّةٍ كانت لم تجد ثم وُجدت، فهم بهؤلاء الأطفال يملكون القوة التى ترجعهم أطفالا مثلهم فى كل ما يسرهم، فيكبر الفرح فى أنفسهم»، ولا أريد استدعاءات مطولة من القصة التى تحكى قصة رجل يستعرض حكايته مع زوجه التى ماتت فى أثناء ولادتها لابنتها، والتى كانت تتوقع وتسعد بقدومها، وكان هو الأب والزوج الحنون ينتظر ويريد ولدا، ولا تتوقف القصة عند هذا الاختصار المبتسر، ولكنه يجعل من كل معنى فيها مجالًا لتأمل الحياة بسعاداتها المفقودة، وأحزانها الحاضرة فى لحظات السعادة، فالوقت الذى كان مقررا للسعادة، انقلب مأتما، ولا يسلك الرافعى سلوكا عاطفيا سطحيا، بل يصول ويجول فى تفنيد وتأمل المعانى الكبرى للحياة، وهكذا كانت قصصه جميعا، حتى القصص الإسلامية التى جمعها تلميذه المخلص محمد سعيد العريان فى كتاب، لم يتوقف عنده أحد. وحذْف مصطفى صادق الرافعى من تاريخ الأدب القصصى فى مصر، يعدّ من السلبيات التى لحقت بالتأريخ الأدبى والثقافى، ولأننا نترك دراسة التأريخ الأدبى والثقافى لأفراد، دون إدراج هذا الدرس التاريخى ضمن مؤسسات ثقافية كبرى مثل الدار القومية للوثائق، والمعنية بذلك الأمر، ستضيع منا المعانى والأمانى فى وقت واحد، ولأن الرافعى كان مفجرا لنزاعات فى حياته، وحتى فى رحيله، فقد أهملته الدراسات الأدبية العميقة، ما عدا بضع دراسات كتبها محبون ودارسون مثل محمد سعيد العريان، والشاعر كمال نشأت، وكان العريان ينشر كتابه مسلسلًا فى مجلة «الرسالة» بعد رحيل الرافعى، وظل يكتب حلقاته فى المجلة مستعرضا تفاصيل متعددة من حياة الرافعى وكتاباته ومواقفه، وعندما وصل إلى سرد معاركه مع العقاد، انبرى الناقد والشاعر سيد قطب للدفاع عن العقاد، بينما العقاد كان صامتا، ولكن العريان لم يستجب ل«جر شكل» سيد قطب، لأنه يعلم أنه لو استُدرج إلى هذه المعركة، فلن يستطيع استكمال ما بدأه من جهد مشكور، ولكن مقالات سيد قطب وجدت من يتصدى لها ولسيد قطب نفسه بضراوة واقتدار، وهو أحد تلاميذ ومحبى الرافعى، وهنا أعنى المحقق والأديب محمود محمد شاكر الذى كتب مقالات خمس بشأن ما كتبه سيد قطب، وتجاوزت المعركة قطب وشاكر والعريان والرافعى والعقاد، ليدخل فيها كتّاب آخرون على صفحات مجلة «الرسالة»، وكان ذلك عام 1938، أى بعد رحيل الرافعى بعام واحد، وكان السجال يتناول كل المجالات التى صال وجال فيها الراحل الكبير مصطفى صادق الرافعى، الذى هاجم العقاد وطه حسين، وعشق الكاتبة مى زيادة، وله فى ذلك رسائل غرامية مشبوبة، فقد هام بها هياما كان حديث العصر آنذاك، وكتب فى هذا الهيّام ما سوف يخلّده لأمد طويل، كذلك كتب نشيدا وطنيا للبلاد، وكانت حياة الرافعى أوسع وأكبر من اختصارها فى معارك أدبية وفكرية مع أعلام عصره، وأشد ما يزعجنى هو حذفه بقسوة من تاريخ كتابة القصة المصرية.