يعود العراق مجددًا إلى واجهة وعمق الصراع الإقليمى المحتدم فى الشرق الأوسط لكن بمداخل جديدة. فالعراق الذى ظهر إلى الوجود عام 1920 للمرة الأولى بحدوده المعروفة الآن ضمن تسويات تصفية الإمبراطورية العثمانية فى أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى ظل يمثل عنوانًا لمشروع «الخرائط السياسية» الجديدة لمشروع التقسيم الغربى للوطن العربى. كان هذا العراق أحد أهم عناوين مشروع تلك الخرائط ليس فقط جغرافيا، بل وسياسيا أيضا، عندما استحضر الحلفاء البريطانيون الشريف فيصل بن الحسين ليكون ملكًا على العراق ضمن صفقة تسوية للغدر الذى لحق بوالده الشريف حسين شريف مكة وقائد ما عُرف ب«الثورة العربية الكبرى» الذى انحاز للحلفاء ضد الإمبراطورية العثمانية وفجر ثورته ضد الحكم التركى أملاً فى بناء «الدولة العربية الكبرى» بمساعدة الحلفاء لكن هؤلاء الحلفاء، وكما هى عادتهم، أخلفوا كل العهود والوعود فقد نكلوا بالرجل بعد انتصارهم على الإمبراطورية العثمانية، ونفوه إلى مالطا ليقضى هناك ما تبقى من عمره، لكنهم رأفوا بأبنائه الثلاثة الشريف على الذى أعطى ولاية الحجاز (التى آلت فى ما بعد بدعم بريطانى إلى عبد العزيز بن سعود) والشريف عبد الله الذى أعطى حكم مملكة وليدة اقتطعت من سوريا الكبرى كما اقتطع منها لبنانوفلسطين، وأخذت هذه المملكة اسم «المملكة الأردنية الهاشمية». والشريف فيصل الذى نصبوه ملكًا على سوريا (أو ما بقى من سوريا) لكن السوريين ثاروا عليه ورفضوه، فأخذه البريطانيون إلى العراق ليكون ملكًا عليه. هكذا ولد العراق ضمن تسويات ترسيم الخرائط السياسية بعد الحرب العالمية الأولى وضمن تسويات اتفاقيات التقسيم البريطانية - الفرنسية لأرض العرب ومنح فلسطين لليهود كى يأمن هؤلاء البريطانيون والفرنسيون خطر قيام دولة عربية كبرى موحدة. لكن رغم كل ذلك، فإن هذا العراق استطاع أن يقوم بأدوار عربية مهمة، خصوصا بعد إسقاط الحكم العميل للغرب الذى أقحم العراق فى سياسة الأحلاف البريطانية. أصبح العراق بعد ثورة (يوليو) 1958، بوابة شرقية شديدة الأهمية للعروبة، وانطلق فى بناء إحدى أهم ركائز القوة الاقتصادية والعسكرية العربية، لذلك اعتبره الأمريكيون مصدرا للخطر والتهديد لنفوذهم ومصالحهم، بعد أن ورثوا القيادة البريطانية فى الخليج ابتداء من نهاية عام 1971، كما اعتبره الكيان الصهيونى مصدرا للخطر أيضا، ونجحوا فى توظيف التمرد الكردى فى الشمال العراقى ليكون خنجرا مغروسا فى جسد العراق يحول بينه وبين انخراطة كقوة عربية مضافة ضد الكيان الصيهونى. كانت هذه مرحلة أعقبتها سنوات عجاف من حرب الثمانى سنوات بين العراقوإيران بتخطيط أمريكى وتمويل خليجى للخلاص من العراقوإيران معا بعد ظهور إيران الجديدة عام 1979، عقب سقوط حكم الشاه، ومن الغزو والاحتلال العراقى للكويت عام 1990 وما أعقبها عام 1991 من حرب التحالف الأمريكى لتحرير الكويت، وجاءت تفجيرات واشنطن ونيويورك (11 سبتمبر 2001) لتعطى للرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش فرصة جديدة لتدمير العراق لم يستطع والده جورج بوش (الأب) أن يقوم بها فى حربه لتحرير الكويت عام 1991، حيث كان قرار جورج بوش (الابن) بغزو العراق واحتلاله عام 2003 فرصة أمريكية لفرض مشروع إعادة تقسيم الخرائط السياسية فى الشرق الأوسط مرة أخرى، باعتبار أن ذلك هو الحل الأمثل لكل مشكلات المنطقة، ولإقامة نظام جديد للشرق الأوسط تلعب فيه الدول الجديدة الطائفية والعرقية الدور الأساسى على أنقاض النظام العربى ولتمكين إسرائيل من السيطرة على هذا النظام الجديد. رغم فشل هذا المشروع الأمريكى بسبب بسالة المقاومة العراقية التى تفجرت صبيحة سقوط بغداد إلا أن الأمريكيين نجحوا فى تحويل العراق إلى كيان قابل دائما للانفجار وعدم الاستقرار نظرا لما غرسوه من عوامل التفتيت والتفكيك للكيان الوطنى العراقى وأبرزها الدستور الطائفى ونظام المحاصصة السياسية، فضلاً عن تمكين الكرد من شمال العراق، وترك العراق ساحة مفتوحة أمام النفوذ الإيرانى على حساب العرب السنة وعلى حساب المشروع الوطنى العراقى. الآن يتجدد مشروع إعادة ترسيم الخرائط ولكن بآفاق جديدة وبآليات جديدة تفوق خطورة كل محاولات إعادة الترسيم والتقسيم السابقة من خلال نجاح تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» (داعش) فى استغلال كل مساوئ نظام الحكم العراقى، وبالذات حالة الاحتقان الشديدة لدى العرب السنة، وخصوصا شيوخ وثوار العشائر والقبائل، وحالة الاستقطاب الحاد بين الحكم المركزى فى بغداد والحكم الكردى فى أربيل لفرض تقسيم العراق كأمر واقع، وربط نجاحات هذا التنظيم فى سوريا بنجاحاته فى العراق كخطوة أساسية لإعلان دولة جديدة تتجاوز حدود سايكس - بيكو تربط بين شمال غرب العراق وشمال شرق سوريا، لتكون بداية لإعادة تقسيم العراقوسوريا معًا أو لإسقاط كل الحدود وإقامة دولة الخلافة المزعومة. لقد استطاعت (داعش) أن تحقق نجاحات مهمة ضمن هذا المسعى بعد أن سيطرت على مساحات واسعة من الأراضى العراقية والسورية، ووصلت أصداؤها إلى لبنان وحدود الأردن مع العراق فى ظل تطور مثير وخطير، بعد أن سلم أمراء «جبهة النصرة» مفاتيح مدينة البوكمال فى ريف دير الزور (شمال شرق سوريا) إلى خصمهم اللدود «داعش» بعدما قدموا البيعة لأميره أبو بكر البغدادى. فهذه الخطوة سوف تمكن «داعش» من تحقيق حلم الربط بين الأراضى التى تسيطر عليها بين العراقوسوريا لتقيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام»، ولتؤسس لمرحلة جديدة من الصراعات الطائفية والعرقية سوف تتفجر تباعًا عندها سيصبح مشروع إعادة ترسيم الخرائط السياسية انطلاقًا من العراق هو سيد الموقف ولكن بنكهته الطائفية والدموية الرهيبة.