لم يصدق فادى نفسه. هو وعائلته بجوارى نغنى أغنية واحدة: «بارك بلادى».. وأين؟ فى ميدان التحرير؟ قبلها سمعنا معا الشيخ أحمد التونى فى إنشاد للنبى محمد، وبعدها غنى على الحجار لأحمد حرارة «ضحكة المساجين»، وبين الجميع كان رامى عصام و«الشعب يريد».. لأول مرة كرنفال يقيمه المجتمع. مصر كانت محرومة من كرنفالات الفرح العمومى، الكرنفالات المسموح بها كانت لتمجيد الديكتاتور، والشارع لمواكبه أو لمرور تحت السيطرة. العسكر علمونا الخوف خارج البيت (إننا فى غابة يحرسها ديابة.. لا تعرف ممن تخاف فيها من العسكر ولا الحرامية). داخل البيت أيضا (زوار الفجر.. وكبسة الداخلية.. وبلطجة المباحث الجنائية). الشوارع حلبات مصارعة تحت سيطرة أجهزة أمن وصلت إلى مرحلة خطر، حين تعاملت على طريقة العصابات، بداية من فرض الجباية الفورية على العابرين من الكمائن ليلا، وحتى تفجير الكنائس لإشاعة الرعب والخوف والهرولة إلى حضن الدولة المأمن الوحيد. المجتمع تحرر وغير هندسة الشوارع، ومنحته الثورة فرصة تاريخية لفرح جماعى... فادى وعائلته وعشرات الآلاف افتتحوا أول لحظة فى ميدان التحرير بالغناء لبلادى... كان للسلام الجمهورى طعم آخر غير احتفالات الطغاة، والبالونات الطائرة بالأعلام.. تلمس إحساسا لا تفعله احتفالات السلطات المهيبة، الباردة، الخالية من الناس. احتفالات للديكتاتور ومن أجل تمجيد الديكتاتور. الشعب هذه السنة احتفل، وفى الميدان وقرر أن يعلن «الشارع لنا.. وليس للديكتاتور وفرق حراسته». الشارع.. للبهجة.. والسعادة المشتركة.. الجميع يغنى لمصر.. المسيحى الذى يمجد سيده فى السماوات والمسلم الذى يوحد ربه.. الجميع غنى الترانيم.. وشارك الشيخ التونى فى الإنشاد.. واهتز الجميع عندما رفعت الأيادى طلبا للسلام.. طلبا لمصر آمنة. ربما كانت معانى الكلمات بسيطة، لكنها وصلت إلى مشاعر لا تصل إليها الأفكار فى العادة. والمجتمع استرد العَلَم من استخدامات السلطة.. وأصبح ملك أصغر طفل.. يشعر بالفرح عندما يرفرف فى يده.. ويحمل معه ذاكرة شهداء كانوا يحملون العَلَم ومنحوه معنى جديدا.. لم يعد العلم مجرد قطعة قماش باردة وثقيلة.. تشير إلى وجود الديكتاتور ومؤسساته السلطوية.. العلم أصبح فى كل مكان.. علامة على رغبة مشتركة فى انتصار.. رغبة فى صنع بلد قوى وسعيد. .. ضوء الشمعة اهتز.. وشباب من حلوان يثيرون حالة فرح فوضوية.. يتململ الحضور الوقور.. لكن تحدث لحظة اندمج مدهشة.. وتعلو الضحكات مع الغناء وأصوات الألعاب النارية... عرفنا كيف نحتفل؟ عرفنا كيف نصبح مجتمعا لا تجمعه صفارة وتهشه عصا، ها هو ذا المجتمع تعود قوته.. لم يعد مسجونا فى أقفاص يخبط على قضبانها.. بكل يأس. يحبو المجتمع ليتخلص من قبضة نظام عسكرى ولو ارتدى كل أزياء المدنية.. يحبو ليدرك أن البهجة لا تتعارض مع الوقوف فى مواجهة السلطة.. وأن الشهداء ليسوا ضحايا سقوط عمارة نبكى عليهم فقط.. لكنهم صناع حياة.. ولهذا نودعهم بالحسرة والبهجة معا... تعلمنا فى الجسر بين عامين ما كان غافلا عنا سنوات طويلة.. والتقينا معا.. كما لو كنا من بلاد مختلفة.. لم نعد نخاف من الغرباء.. نعم يا فادى أنت وتوأمك شادى.. نحن على هذه الأرض.. لسنا ضيوفا.. ولا الغرباء أعداء دائما.. إننا هنا وهم عابرون.. المجتمع عاد وهم ذاهبون.. وبعد أن مرت أحلى سنة.. ننتظر وكلنا أمل.. سنة جديدة.. دون القبضة السوداء للمستبد. شكرا لأصحاب مبادرة استقبال العام الجديد فى التحرير.. شكرا جدا.. صنعتم بهجة لن تمحى من الذاكرة.