إعلان أفيش «السفاح» يقدمه في صورة شيطان رجيم، بينما حاول صناع الفيلم أن يقدموه كضحية.. فلماذا هذا التناقض؟ من الأفضل التعامل مع السفاح علي أنه فيلم مثير ولا نحمله مصائب مجتمعنا والمجتمع العالمي هل يمكن أن نبدأ قراءة أي فيلم من الأفيش؟.. بمعني آخر هل الافيش أو إعلان الفيلم هو جزء من الشريط السينمائي نفسه؟.. الإجابة هي نعم، لأن الافيش هو مدخلنا الأول للتعرف علي أي عمل، وكل الأفلام الكبيرة والشهيرة ترتبط في ذهن المشاهد بصورة الافيش.. فمثلا بطلا فيلم «تيتانك» وهما محلقان فوق السفينة تطل صورة مبهرة لاسترجاع كل أحداث الفيلم بعد ذلك! يأتي أفيش فيلم «السفاح» بأرضية أو خلفية سوداء للبطل هاني سلامة بوجه متجهم وعينين مشتعلتين وتخرج من الرأس يد تبسط قوتها، والتركيبة توحي بالشيطانية، ثم نجد صورتي: العشيقة نيكول سابا، وقرين البطل في لعبة القتل الاحترافي خالد الصاوي.. والمعني أننا أمام فيلم بوليسي بطله مجرم شيطاني، واسم الفيلم يؤكد ذلك، ثم، وهذا هو الأهم، أسلوب المخرج سعد هنداوي في المعالجة، حيث تبدأ الاحداث بالجريمة المذبحة التي يروح ضحيتها مجموعة من الناس، وكل دوافع هذا «السفاح» هي السرقة وبعد أن نشاهد الجريمة، ترجع بنا الأحداث إلي الوراء «فلاش باك» حتي نتعرف علي الاسباب التي جعلت مراد «هاني سلامة» يقتل بهذه الشراسة وبدم بارد!.. ورغم أن المتفرج يعرف نهاية الفيلم منذ اللقطات الأولي، فإن الاثارة البوليسية تنمو مع الاحداث بمهارة وتقنية متميزة في استخدام وتوظيف سعد هنداوي للفلاش باك، ويظل الفيلم ممتعاً ومشوقا.. وبكل تأكيد يمثل «السفاح» اضافة لمشوار هذا المخرج. إذن.. نحن أمام فيلم بوليسي 100% ومستوحي من حادثة حقيقية أطلقت الصحف علي منفذها اسم «سفاح المهندسين»، وقد شغلت الرأي العام لأن الشاب القاتل كان ثريا وابن ناس «!!»، والجريمة المذبحة وقعت في حي راقٍ لفتي وسيم وذكي، ولهذا ذهبت التحليلات الصحفية لها في كل اتجاه! وهذا ما حدث أيضا مع خالد الصاوي وعطية الدرديري في كتابه سيناريو وحوار الفيلم، حيث تشعر طوال الوقت بأن هناك جهداً لاثبات أن هذا السفاح ضحية.. فهو أولا ضحية والديه: الأم العاشقة للرجال بشكل جنسي صارخ، والأب العنيف والمتسلط.. وثانيا ضحية حياة «الاصلاحية» وعنف المجتمع.. وثالثا ضحية العنف في المنطقة العربية والعالم، فهو يتحول إلي قاتل محترف في حرب العراق وإيران، ثم في الحرب الأهلية اللبنانية.. وياله من سفاح! انشغل السيناريو في صنع مواقف واحداث لتأكيد أن «السفاح» ضحية، وتقديم تحليل نفسي لتأثير لهو آلام وجبروت الأب في تحول كل عواطف الابن تجاه العدم واللاجدوي وبالتالي يصبح له قانونه الخاص في الانتقام من الآخرين كل الآخرين سواء بالسرقة أو القتل.. وحتي المرأة التي أحبها كانت متزوجة ولكن زوجها يعمل بالكويت، وكأن الحب نفسه خضع لقانونه، فاختارها متزوجة ليسرقهامن رجل آخر!.. فإذا اتفقنا في أن هذه العوامل من الممكن أن تضع سفاحاً، فإننا لانتقبل بسهولة مسألة تحوله إلي «قاتل محترف أجير» في العراق ثم لبنان، وهذه النقطة الأخيرة تفسد واحدة من أهم أحداث الفيلم، وهي اللقاء مع العالم النووي «نبيل الحلفاوي» وأسرته، ورفضه قتلهم رغم أنه في مهمة كقاتل أجير.. لقد كانت مسألة العراق ولبنان والاستاذ في الطاقة النووية، وقبلهم اللقطات الأرشيفية لعبدالناصر والسادات.. وغيرها حملا زائداً علي فيلم بوليسي، وقد جعلت السيناريو يهتم بالعالم الخارجي حول «السفاح» وأهملت أن تجعل له ظلالاً نكتشف من خلالها كيف يفكر؟!.. ولماذا يقتل دائما بدم بارد؟.. نعم عرفنا قصة أمه وأبيه والإصلاحية وأشياء أخري.. ولكن كيف نسجت هذه القصة في شرايينه مسألة عشق القتل. من الأفضل التعامل مع «السفاح» علي أنه فيلم بوليسي متقن الصنع، ومثير بدرجة كافية، ولا نحمله مصائب مجتمعنا والمجتمع العالمي ليكون مجرماً وسفاحاً.. وقد حاول مدير التصوير أحمد عبدالعزيز أن يصنع أجواء خاصة لحياة السفاح ونجح لحد ما.. وكان مونتاج رباب عبداللطيف من مميزات هذا الفيلم ومدركاً، تماما لطبيعته، ورغم أن الزمن والتحولات في حياة «السفاح» كانت عنصراً أساسياً فإن موسيقي تامر كروان أغفلت ذلك ولم تنشغل به. أستاذية أداء الممثل الكبير نبيل الحلفاوي منحت المساحة التي قدمها بالفيلم حيوية خاصة، ومتعة في المشاهدة، وأدت نيكول سابا دورها بتفهم جيد، وأضافت للشخصية ملامح وأبعادا رغم عدم اهتمام السيناريو بتعميق شخصية «ريما»، أما خالد الصاوي فهو نجم خاص في الأدوار غير التقليدية وكان صاحب أداء لافتا بحق، وإن كنت لا أعرف خاصة أن الصاوي هو كاتب السيناريو أيضا لماذا لم يحاول اخفاء جوانب أكثر لهذه الشخصية الشريرة، وماذا يحركها؟ ونأتي إلي هاني سلامة الذي لعب شخصية «مراد» بتفهم وسيطر عليها بقوة وأظهر مشاعرها الباردة، وانفعالاتها المحسوبة بدقة فكان متميزاً بالفعل. تبقي نقطة أخيرة.. هل هناك مشكلة عند أي أحد في تقديم فيلم بوليسي متقن الصنع دون أن نثقله بمصائب الدنيا والآخرة؟.. أعرف أن نقاد الستينيات زرعوا في مخيلة المشاهدين أن الافلام البوليسية هي أقل قيمة من الافلام الأخري الواقعية والاجتماعية وغيرها، ولكن هذا ليس صحيحاً، ولدي مئات الامثلة علي أفلام بوليسية خالدة!.. والجمهور يستقبل الأفلام البوليسية بحفاوة «الإيرادات شاهد اثبات!».. اصنعوا أفلاما بوليسية جميلة، ونحن معكم فقد انتهي عصر نقاد الاشتراكية!