من حين لآخر يتحفنا صديقنا المنوفى الخبير اللغوى الأحمدى الشلبى برسالة عذبة تخرجنا بعض الوقت من نطاق السياسة الى نطاق الأدب، وتروح عنا عناء السياسة ولغتها، باللغة العربية الجميلة ونظمها. وهذه الرسالة تقول: حشد شوقى؛ كل أسلحة الإبداع الشعرى الشعورى الشامل، من ألفاظ عذبة، وموسيقى رقراقة، تنساب انسياب النهر المقدس، فتأسر الأفئدة، فياضة؛ برهف المشاعر؛ وصور وشخوص صادقة الملامح والتلوين، نابضة بالحياة، فى توافق ومزج ومزاج؛ إنسانى روحى راق؛ غير مسبوق ولا ملحوق؛ وكأن تحت لسانه هاروت ينفث فيه شعرا، وكأنما كان يضع نصب عينيه، نظرية النظم عند الشيخ عبد القاهر الجرجانى - إمام علماء البلاغة - الذى يلح دائما على مزية النظم. ومن شاء أن يحكم على مدى الصواب، والخطأ، فى نظرية النظم، عليه أن يعالج قضايا التقديم والتأخير، والفصل والوصل، والإظهار والاضمار والاستفهام، والنفى، والحذف، والتعريف والتنكير وغيرها؛ من مباحث علم المعانى. واللفظ عند الجرجانى، يكتسب مزيته، بحسن مجاورته للألفاظ الأخرى، وأجمل ماقيل فى جمال اللفظ: إن غيره، لا يغنى عنه؛ حتى لوكان مرادفه. - وفى كتاب نقد الشعر؛ لقدامة بن جعفر، جعل الصفات النفسية، أم الفضائل فى النظم، متأثرا بآراء آرسطو فى كتابه (الخطابة). وعناصر الشعر عند قدامة؛ هى اللفظ والمعنى والوزن والقافية، وما تركب منها. والمدقق فى قصيدة النيل لشوقى؛ يجد أنه حاز كل الفضائل التى ذكرها الجرجانى وقدامة بن جعفر بحذافيرها، بتفوق، وتوفيق إلهى، وقد طبق شوقى بالفعل تلك النظريات؛ تطبيقا عمليا منهجيا بموهبته المتأصلة؛ الفطرية التى فطره الله عليها، وأنعم عليه بنعمة التجويد والتجديد؛ فى قصيدته الفريدة، بل والمتفردة؛ بين أشعار المتقدمين والمتأخرين، فمزج بذلك بين النظرية والتطبيق، وأفاد كل من خلفه فى هذا المضمار، وكأنه يستنهض روح الشاعرية، فى أمة العرب، التى اشتهرت بين الأمم بأنها أمة شاعرة. يقينى أن هناك تشابها محسوسا وملموسا؛ بين شوقى والنيل، وكأن إرادة المنعم سبحانه وتعالى - خصت شوقى بهذا الشرف الرفيع، فالمطلع على ديوانه، يلمس بلا عناء، روافد شتى؛ تصب فى الديوان، من فحول شعراء الأولين؛ كامرئ القيس وزهير وابنه كعب ولبيد وعنترة والمتنبى والشريف الرضى وابن الفارض وابن زيدون وابن الرومى وأبى العتاهية وأبى نواس والبحترى وأبى العلاء وأبى فراس والبوصيرى والمعتمد بن عباد وبشار بن برد وجرير والفرزدق ودعبل الخزاعى وغيرهم. استوعبهم شوقى، كالنحلة ترشف من رحيقهم؛ وتصبه فى مجراه الزاخر الفياض شهدا مصفى؛ لذة للشاربين؛ كما وكيفا، يعز على الند والنظير؛ينساب حينا، ويهدر حينا، بعاطفة دافقة دافئة. - وقد كانت المعانى تنثال عليه انثيالا، كما يقول سكرتيره أحمد أبوالعز، أنه كان يَنْظم الشعر فى أى وقت شاء، وفى أى مكان أراد. فكان ينظمه جالسا وماشيا ومسافرا ومقيما، وكان ينظمه وهو وحده، وأيضا وهومع أصدقائه أوزواره، وكذلك كان ينظمه فرحا وحزينا، كما كان ينظمه وهومُجِد فى أى عمل أولاهٍ بأى منظر. - وقد كان عشقه للنيل بلا تكلف، وحبه بلا تملق؛ فالحب عنده يملى صادق الكلم. لى فيكَ مَدحٌ لَيسَ فيهِ تَكَلُّفٌ *** أَملاهُ حُبٌّ لَيسَ فيهِ تَمَلُّقُ - وقد استطاع شوقى باقتدار، وامتياز فى أكثر من موضع، فى القصيدة اقناعنا بالمتناقضات وتقبلها، بل وجعلها مستساغة شهية شذية، كما فى الأبيات الآتية: فى تنويهه عن حمأة النيل: حمراء فى الأحواض إلا أنها *** بيضاء فى عنق الثرى تتألق وفى قوله عن الأهرامات: هى من بناء الظلم إلا أنه يبيض *** وجه الظلم منها ويشرق لم يرهق الأمم الملوك بمثلها *** فخرا لهم يبقى وذكرى تعبق ويقول عن عطاء النيل: والماء تسكبه فيسبك عسجدا *** والأرض تغرقها فيحيا المغرق - وقد كان إمام الدعاة الشيخ الشعراوى يتمثل بهذا البيت الأخير فى تفسير قوله تعالى؛ وحياً إلى- أم سيدنا موسى - عليه وعلى نبينا أفضل السلام (فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)، ليبين مدى طلاقة القدرة؛ فى الحالتين. كما تفوق شوقى؛ بمحسناته اللفظية، والمعنوية، إلى حد يبتعد بها عن مهاوى التكلف الممقوت والاسفاف، بل ارتقى بها، إلى مرتبة فى التأثير، لا تقل طلاوة؛ عن الصور الخيالية الخلابة، ولا يتأخر قيد أنملة؛ عن ابن زيدون فى نونيته البديعة؛ فى ولادة بنت المستكفى؛ والتى حفلت بألوان بديعة من البديع؛ لا يقصر جمالا ولا روعة؛ عن الصور الخيالية، بل تتآذر معا، لإثارة الدهشة والانبهار والإبداع والإمتاع والإقناع، فى آن واحد، من خلال بناء لغوى، وتوهج بلاغى وفكرى سامق باذخ، لا نبوفيه ولا اعوجاج. وشوقى يستنهض، ويستحضر فى قصيدته، نخوة الفراعنة الشداد؛ فى شعب؛ يستحق كل اكبار واجلال وتحضر، فهل نحن مدركون؟ والويل للأمم، التى لا تقرأ، ولا تعى ولا تهتم بأفكار مثقفيها، ومبدعيها، وعلمائها. فالمواطن المثقف؛ لا يحرق، ولا يدمر، ويقينى أن الذى حرق المجمع العلمى، لوكان مثقفا لما حرق أبدا، وإن فعل فلربما حرق نفسه بدلا من فعلته الشنيعة، وذلك يرجع لغياب وزارة الثقافة. وقد نبهنا عدونا موشى ديان؛ حيث قال: العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون. وقد عرفنا الدواء واستمرأنا الداء، لقد كان التفكير؛ فيما لم نتعود التفكير فيه، هوالذى أدى إلى إنجازات أكتوبر1973، وإلى عملية التحرير الكبرى التى حررت الأراضى المصرية المحتلة. ويقينى واستشعارا منى أن القادم أسعد، وأن رئيسنا؛ الذى يكاد يُذْهِب نفسه؛ عشقا فى مصر، وشعبها الذى راح يبادله حبا بحب، وصار يمثل رمزا وطنيا للخصب والنماء والعطاء، ومعه الإدارة التنفيذية؛ سيخيبون لا محالة، تلك المقولة، بجمع الشعب المصرى حول هدف قومى، استلهاما لثقافة القوات المسلحة الباسلة؛ إبان حرب أكتوبر المجيدة، فلم تسجل أقسام الشرطة بلاغا واحدا، وحتى لا يُستغل العاطلون، فى تغذيه الإرهاب المدمر. وهناك طاقات معطلة، تجعل يدنا معطاءة كعهدنا وقدرنا؛ وتتحول الحالة إلى حراك اجتماعى بعيدا عن الإرهاب؛ ومن يتخلف سوف يزداد عزلة، واحتقارا، ويصير بلاهوية؛ إذا لم ينتصر على نفسه الأمارة بالسوء. وأذكر هؤلاء بحديث المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ لأصحابه بعد إحدى الغزوات»جئنا من الجهاد الأكبر؛ إلى الجهاد الأصغر، قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؛ قال جهاد النفس»؛ وهبنا الله نعمته. ولم يكن شوقى؛ يتخيل، ما أصاب الشعر العربى من انتكاسات؛ على قارعة الطريق؛ وفى وضح النهار، وأمام مرأى ومسمع؛ وزارة الثقافة، التى راحت ترعى وتشرف على ندوات شعرية أقرب ما تكون إلى مذابح شعرية؛ لا تليق ببلد أمراء البيان، والشعر والفكر، وصار حظ الموهوبين، والمثقفين الحقيقيين لديها، حظ الأيتام على موائد اللئام؛ وهذا لا يتوافق مع العهد الجديد الرشيد؛ وينذر بكارثة، أدعوالله أن يقينا منها؛ وينشرالخير العميم، فى ربوع الوطن المتعطش. المتطلع لريادة عالمية هوأهل لها؛ وأحق بها. ووزارات الشباب والثقافة الغائبة عن المشهد الآن؛ ومنذ فترة طويلة، قد كان يتحتم وجودها حائط صد ضد الإرهاب قبل ظهوره، نظرا للتغييب والتغريب الثقافى، والفكرى.؛ ولا تعبر عن ذاتية الوطن وهمومه، وتعدت تلك الحالة بالتالى؛ إلى شتى المجالات الأخرى لمن يعى: وما مِن كاتبٍ إلا سيفنى *** ويَبقى الدهرَ ما كتبتْ يداه فلا تكتبْ بخطّكَ غيرَ شىء *** يَسُرُّكَ فى القيامةِ أنْ تراه والنصيحة غالية للمسئولين : لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم *** فمصيبة الإسلام من جُهّال انتهت الرسالة هكذا دأب صاحبنا يأخذنا، الى حدائق غناء من الشعر والشعراء والأدب والأدباء، فجزاه الله عنا خيرا. وللحديث صلة. والله الموفق