بين الرحمة والعدل الإلهي ، تاهت كلمات كثير من الوعاظ والدعاة .. وجدوا الطريق لطرق القلوب يمر عبر ويلات السموم ، تفرغ الكثير منهم لتحديد من سيلج النار ومن سيكون من أهل النجاة ، غلب عليهم في مختلف العصور الحديث عن صفة العدل الإلهي وما تتطلبه من شدة في الحساب ، وغاب عنهم استحضار صفة أخرى من صفات الحق تعالى وهي صفة الرحمة، فإنّ استحضارها يفتح باب الأمل واسعاً أمام الإنسان الذي يسقط في المعصية، فيدفعه الأمل إلى العودة إلى الله وعدم اليأس والقنوط من رحمته . قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم .. ولا ريب إنّ تغييب صفة الرحمة أو تجاهلها واستبعادها عن علاقتنا بالله هو أمر يقتل الهمة والحافز علي ولوج باب التوبة ، ويدفع إلى اليأس من رحمة الله سبحانه ، بل يسدّ على الإنسان باباً واسعاً من أبواب العلاقة بالله والارتباط به والدخول إلى ساحة قدسه والاستفادة من سنيّ مواهبه ، وقد حدثنا الله الرحيم في كتابه أن رحمته هي السبب في نْجاة الصالحين من عباده من العذاب الذي نزل بقومهم وجماعتهم، فقال سبحانه: لما جاء أمرنا نجّينا هوداً والذين آمنوا معه برحمةٍ منا ونجيناهم من عذابٍ غليظ . كما أننا نجد إنّ أهم ما يتميز به أدب الدعاء في الإسلام ، هو الحضور المكثّف لصفة الرحمة بشكل منقطع النظير، ولعلنا لا نجد صفة أخرى لها هذا الحضور في مسألة الدعاء كصفة الرحمة ، نتعلم ذلك من أدعية القرآن الكريم ، وكذا من أدعية النبي(ص) والأئمة والصالحين أنه ينبغي للعبد الداعي أن يطلب قضاء حوائجه من الله، متوسلاً إليه برحمته ، يقول تعالي : ونَجِّنا برحمتك من القوم الكافرين .. وقال تعالى في آيةٍ أخرى: وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ، فالرحمة الإلهية هي مفتاح النجاة وسبب السعادة في الآخرة ، ويبلغ حضور صفة الرحمة في الدعاء حّداً يطلب فيه الداعي من ربه أن لا يعامله إلا بمقتضى رحمته ومغفرته ، وأن لا يعامله بعدله وما يستحقه ، لأنه لو عامله بعدله لهلك ، يقول الإمام علي بن الحسين في دعاء له : ولا تحمل على ميزان الإنصاف عملي .. ويقول في دعاء آخر : واحملني بكرمك على التفضل ولا تحملني بعدلك على الاستحقاق . وغياب صفة الرحمة ليس بقاصر علي مسألة العلاقة بالله سبحانه ، بل عن الخطاب الديني بمختلف جوانبه عند الكثير من الوعاظ المسلمين، حيث نلحظ أن هذا الخطاب ينحو منحى التشدد ، فهو يركز على صفة "الانتقام" الإلهي ويبالغ في الحديث عن صور العذاب ومشاهد النيران أكثر مما نراه يركز أو يتحدث عن رحمانية الله ، وهذا ما يترك تأثيراً سلبياً على ذهن المتلقي والمخاطب. إن المطلوب أن نقدّم الله تعالي إلى الناس بما قدّم به نفسه ، قال تعالى: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأنّ عذابي هو العذاب الأليم .. حيث نلاحظ أنه تعالى في هذه الآية قد نسب صفة الرحمة إلى نفسه، فقال: أنا الغفور الرحيم} بينما نسب صفة العذاب إلى فعله لا إلى نفسه ، فقال: وأن عذابي هو العذاب الأليم .. وما أجلها من إشارة بليغة ولطيفة إلى أن الرحمة تلائم ذاته أكثر مما تلائمها صفة العذاب . كما أن الآية من جهة أخرى قدمت وتصدرت بصورة الرحمة على صورة العذاب في إشارة واضحة وجميلة إلى أهمية الابتداء في الخطاب التبليغي بما يبعث على السرور والانشراح وبما يجتذب النفوس والقلوب .. إن الحضور المكثف لمادة "رحم" المنسوبة إلى الله في القرآن مع مشتقاتها ومردافاتها بحيث لا تضاهيها صفة أخرى في ذلك ، ليؤكد بشكل جلي على مكانة صفة الرحمة من بين أسماء الله تعالى وصفاته، ما يؤشر ويدل على أنها الأصل والقاعدة ، بينما العذاب والانتقام استثناء ، ومما يشهد لمحورية هذه الصفة بالإضافة إلى الحضور المكثف لها في القرآن والذي يبلغ مئات المرات ، الشاهد علي ذلك قول رب العزة : إن رحمتي سبقت غضبي فلا تقنطوا من رحمتي .. ولكن كيف نفهم سبق الرحمة للغضب؟ الظاهر أن سبق الرحمة للغضب هو تمثيل وكناية عن كثرة الرحمة وسعتها "وغلبتها على الغضب" ، فإن الإنسان في كل حياته يطوف من رحمةٍ إلى رحمة، فوجوده رحمة، وتزويده بالقدرات رحمة، بل رحمات، كما أن الغرض من خلقه هو بلوغ الرحمة، وإذا وفق لطاعة ربه فقد وفّق للرحمة ، وإذا عصى ثم تاب وعاد إلى ربه مستغفراً ، فإنه يمن عليه بالعفو والرحمة ، وعليه، كيف لا تكون الرحمة سابقة على الغضب ومتقدمة عليه بمراحل عديدة كما عبر بعض العلماء . وفي ضوء ما تقدم يتضح معنى سعة رحمته تعالى مما نص عليه الذكر الحكيم في قوله تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء .. وفي آية أخرى : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً . الرحمن الرحيم: يلاحظ أنّ هناك صفتين تعبّران عن حقيقة الرحمة الإلهية وهما صفتا : الرحمن، والرحيم، وتحضر هاتان الصفتان من بين سائر صفاته تعالى في القرآن عموماً وفي آية البسملة بخاصة ولا يخفى ما لهذا الحضور من مغزى عميق لأن البسملة هي عنوان الذكر الحكيم، ويذكر المفسرون في التفريق بين هاتين الصفتين أنّ صفة "الرحمن" تشير إلى الرحمة العامة والتي تتنزل على جميع خلقه من الصغار والكبار، الأولياء والعتاة، المؤمنين والكافرين، المطيعين والعصاة، فرحمته تعالى تعمّ كل هؤلاء وتسعهم، كلٌ بحسبه ووفق استعداده، فالمؤمن تناله رحمته تعالى في الدارين، والكافر تناله الكثير من المراحم الدنيوية، كما أنّ باب الرحمة الآخروية مفتوح أمامه، ما لم يمتنع هو عن دخوله باختياره، وهكذا فإنّ رحمته تعالى لا تختص بالإنسان، بل تشمل كل الخلائق والكائنات، أمّا صفة "الرحيم" فهي تختص بعباده الصالحين المطيعين وقد استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، قال سبحانه : وكان بالمؤمنين رحيما.. ولا شك أن أبلغ وأعمق معاني الرحمة الإلهية هي الرحمة الأخروية التي ادخرها الله لأوليائه والصالحين من عباده وكل من ينالهم عفوه وغفرانه، ورد في الحديث عن رسول الله(ص : (إن لله عز وجل مائة رحمة وإنه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، بها يتعاطفون ويتراحمون، وأخّر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة... مظاهر الرحمة الإلهية: وإذا كانت رحمته تعالى قد وسعت كل شيء فمن الطبيعي أن نعجز عن بيانها على حقيقتها، أو أن نتمكن من إحصاء مصاديقها أو تعدادها، ولكن على قاعدة أن ما لا يدرك كله لا يترك كله لا بأس بالإشارة إلى بعض مظاهر هذه الرحمة وتجلياتها... وهذا ما نتناوله في مقالنا القادم بمشيئة الله تعالي .