الرحمن والرحيم اسمان لله تعالي مشتقان من الرحمة, وهي في الأصل رقة في القلب, ولأنه تعالي يستحيل أن يوصف بالرقة في القلب فإن المقصود بهما في حقه تعالي غاية التفضل والإحسان; أي إيصال الخير والثواب لمن يشاء الله من عباده ودفع الشر عنهم; وقد ورد الاسمان في القرآن الكريم فقال تعالي: قل هو الرحمن آمنا به,الملك:29], وقال: وكان الله غفورا رحيما,النساء:100], وقال: تنزيل من الرحمن الرحيم,فصلت:2], وقال: هو الرحمن الرحيم,الحشر:22], وقال: وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري,طه:90], وقال تعالي:وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم,البقرة:163]; فهو تعالي الرحمن بما ستر في الدنيا وأفاض من الخير علي المحتاجين من عباده, وهو الرحيم بما غفر في العقبي وجاد بالفضل والإنعام علي العباد. وهو سبحانه الرحمن الذي إذا سئل أعطي, والرحيم الذي إذا لم يسأل يغضب, هو الرحمن بإزالة الكروب والعيوب, والرحيم بإنارة القلوب بالغيوب, الرحمن بتعليم القرآن, والرحيم للمؤمنين بتشريف التسليم والتكريم; قال تعالي: الرحمن* علم القرآن,الرحمن:1-2], وقال:سلام قولا من رب رحيم,يس:58]. وصيغة الرحمن أبلغ من صيغة الرحيم, ولذلك اشتهر في الدعاء: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة, ومعلوم أن رحمته تعالي في الدنيا شاملة للمؤمن والكافر والصالح والطالح, وذلك بإيصال الرزق وخلق الصحة ودفع الأسقام والمصائب, بخلاف رحمته في الآخرة; فإنها مختصة بالمؤمنين. واسم الرحمن مختص بالله عز وجل; فلا يجوز أن يسمي به غيره ولا يوصف بهذا الوصف غيره تعالي; يقول سبحانه وتعالي:قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن,الإسراء:110], فعادل الرحمن بالاسم الذي لا يشركه تعالي فيه غيره وهو الله, وقال عز وجل أيضا:واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون,الزخرف:45]; فأخبرنا أن الرحمن هو المستحق للعبادة جل وعز, وأيضا لما كان معني الرحمن استغراق الخلق بالرحمة فيدل علي صفته تعالي العامة المختصة به جل جلاله, ويستحيل أن توجد لغيره من المخلوقات, لأنه لا يوجد مخلوق تعم رحمته جميع المخلوقات من أوليائه وأعدائه, فلذلك لم يجر هذا الاسم بحق علي أحد من الخلق, وإنما يوجد فيهم حظ خاص من معناه يجري عليهم به اسم الرحيم لا اسم الرحمن; ولذلك جاز أن يوصف العبد برحيم إذا تحقق فيه معناه, مثل وصف الله تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم فقال:لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم,التوبة:128], وقد وصف الله تعالي نفسه بأنه أرحم الراحمين, وذلك يدل علي المشاركة في هذا الوصف والإذن في وصف العباد به. ومرتبة الرحمة أعلي المراتب; ولذلك وصف الله بها رسوله صلي الله عليه وسلم فقال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين,الأنبياء:107], وقال:فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك,آل عمران:159], وقال: بالمؤمنين رءوف رحيم,التوبة:128]. ووصفه تعالي نفسه بالرحمة بعد قوله في فاتحة الكتاب: الحمد لله رب العالمين بقوله عز وجل: الرحمن الرحيم; لأنه لما كان في اتصافه برب العالمين ترهيب جاء بعده بالرحمن الرحيم لما يتضمنه ذلك من الترغيب; ليجمع في صفاته تعالي بين الرهبة منه والرغبة إليه; فيكون أعون علي طاعته وأمنع من معصيته, ومنه قوله تعالي:نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم,الحجر:50,49]. ورحمة الله تعالي وسعت كل شيء وهي رحمة شاملة عامة, يقول صلي الله عليه وسلم: إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة, طباق كل رحمة ما بين السماء والأرض, فجعل منها في الأرض رحمة واحدة فبها تعطف الوالدة علي ولدها والوحش والطير بعضها علي بعض, وإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة,صحيح مسلم(4/2108)فبين صلي الله عليه وسلم أن الذي يخلقه سبحانه في قلوب عباده في الحياة الدنيا رحمة واحدة يتراحمون بها, وسيخلق يوم القيامة مثل ذلك مائة رحمة في قلوب المؤمنين عند الشفاعة وعند الشدائد وأهوال يوم القيامة; فبتلك الرحمات تشفع الملائكة والرسل والنبيون, ويتغافر المؤمنون ويعفو بعضهم عن بعض. وإن من كمل إحسانه وشمل خيره غيره وكثر عطفه وإنعامه علي إخوانه كان قريبا من رحمة ربه, كما أخبر تعالي في كتابه فقال: إن رحمة الله قريب من المحسنين,الأعراف:56]. فاللهم اشملنا برحمتك واجعلنا من المتحققين بما ترضاه لنا منها بين خلقك ولهم. المزيد من مقالات د. علي جمعة