الابن: أبى، هل تصبح الحياة رتيبة مع تقدم العمر؟ الأب: سؤال تصعب الإجابة عليه. لكن ما الذى دفعك إلى التفكير بأمر كهذا؟ الابن: أنت دفعتنى إلى التفكير به. أراقب ما تقوم به، وأجد أن التفاصيل تتكرر باستمرار. تعمل، تكتب، تقرأ، تتحدث فى هاتفك، تقضى وقتا معنا، نذهب معا إلى أماكن للتنزه والتسوق، تذكرنا بغسل أسناننا أكثر من مرة فى اليوم الواحد، تحدد لنا أوقاتا ثابتة للقراءة ولاستخدام الأجهزة الإلكترونية. أنت تفعل كل هذا دوما ودون تغيير منذ سنوات. أليس بذلك رتابة؟ هل مازلت تستمتع بحياتك؟ الأب: أنت محق يا حبيبى. تفاصيل الحياة تتكرر باستمرار، واختبرتها جميعا أكثر من مرة. تتغير قضايا العمل، تتبدل الأمور التى أكتب عنها والكتب التى أقرأها، تتنوع الأماكن التى نذهب إليها، تختلف الموضوعات التى أتكلم عنها معك ومع إخوتك. غير أن العمل والكتابة والقراءة والاهتمام بشئونكم وتفاصيل أخرى ثابتة لا تتحول. أنت محق أيضا فى مسألة الرتابة. وأصارحك، فى كثير من الأحيان لا أريد توجيهك إلى القراءة، ولا أرغب لا فى التدخل فى استخدامك للأجهزة الإلكترونية ولا فى تحديد أوقاتها، وأشعر بملل شديد بسبب مراقبتى المتكررة لسلوكك وسلوك إخوتك فى حياتنا اليومية وتوجيهاتى التى أعلم أنها لا تتأخر من غسل الأسنان إلى الواجبات المدرسية. غير أن مسئوليتى كأب تلزمنى بهذا إلى أن تستقل بحياتك. تلزمنى مسئوليتى بتحمل الرتابة لكى تستقر حياتك وحياة إخوتك، وأجتهد لعدم المبالغة فى التوجيه، وفى الاستماع لتفضيلاتكم، وفى التجديد كلما استطعنا معا. ألم تعجبك فكرة العطلة الأخيرة فى بيت على جزيرة فى أسوان، بعيدا عن كل شىء؟ الابن: أعجبتنى يا أبى. لكن لماذا لا تفعل المزيد لكسر رتابة حياتك؟ بالنسبة لى، غالبية الأمور مازالت جديدة، بما فى ذلك التحايل على توجيهاتك بشأن غسل الأسنان أكثر من مرة ولمدة ثلاث دقائق وبشأن تحديد وقت استخدام الأجهزة الإلكترونية. وفى المدرسة، نتداول دائما خطط التحايل الجديدة، فالأمهات والآباء سواء! الأب: حقا؟ الابن: نعم، حقا. وتستطيع أن تهدأ، فأنا لا أطبق جميع خطط وأساليب التحايل عليك. فقط أريد أن أفهم، لماذا لا تكسر رتابة حياتك، مثلا بيوم أو أيام تتوقف بها عن الكتابة والقراءة وتستمع ربما للموسيقى فقط أو بمشاهدة الأفلام أو بممارسة الرياضة؟ لماذا لا تكسر رتابة حياتك بيوم أو أيام لا توجيهات بها؟ الأب: هل أبدو لك تعيسا إلى هذا الحد؟ أم تريد فقط الأيام الخالية من التوجيهات؟ الابن: لا أعرف يا أبى. فقط أقارن بين سنواتك الكثيرة وسنواتى القليلة. الأب: أسئلتك هذه المرة تصعب جدا الإجابة عليها. تعلم، لم يسألنى قريب أو بعيد عن مدى استمتاعى بحياتى أو عن معاناتى من الرتابة. أشكرك يا حبيبى على كل هذا الاهتمام. سنواتى الكثيرة، 47 كما تعلم، وسنواتك القليلة، ها أنت تقترب من التاسعة، ربما تربط بينهم أمور أخرى تجعل توقعك الرتابة مع تقدم العمر أقل حدة. نعم يتكرر العمل، وتتكرر الكتابة والقراءة والأسفار، وتتكرر تحديات وأزمات الحياة، ومهما تفاوتت التفاصيل واختلفت الحظوظ من النجاح أو الفشل يستحيل التغلب على الرتابة التى بت أشعر بها حقا. نعم، مرت على سنوات كان يحمل بها كل يوم جديد أمرا شيقا، من تنظيم الحياة فى بلاد بعيدة عن وطنى إلى أسفار نقلتنى إلى أماكن وخبرات إنسانية لم أكن قد تعرفت عليها من قبل. نعم، مرت على سنوات تنوعت بها علاقات الصداقة والزمالة والحب التى ربطت بينى وبين آخرين، وبنت شخصيتى أكثر من أى شىء آخر. نعم، مرت على سنوات لم يحتوينى بها الحزن كما شعرت بعد وفاة جدتك، وكان حبى لحياتى ورغبتى فى الاستمتاع بها والانفتاح على خبرات جديدة لا حدود لهم جميعا. ثم بدأت الرتابة بالفعل تتسرب إلى حياتى وتستولى على أيامى، وبدأت مشاعر الحزن ومشاعر القلق والخوف تسيطر على، بل وتحولت هذه المشاعر تدريجيا وعلى الرغم من قسوتها وبسبب تكررها إلى عنصر من عناصر الرتابة التى تسأل عنها. إلا أن سنواتك القليلة أنت، وسنوات إخوتك، هى التى تنقذنى من الرتابة. أنتم تحملون لى دائما التفاصيل الجديدة. أنتم كل يوم فى تطور، كل يوم مع مهارات جديدة تكتسبونها، كل يوم مع أفكار جديدة تأتون بها إلينا من المدرسة ومن أماكن أخرى أليست هذه هى المرة الأولى التى تسألنى بها عن مسألة رتابة الحياة؟ أليست هذه هى المرة الأولى التى تصارحنى فيها بخطط التحايل يا سيد نوح؟ الابن: إذن اتفقنا، سأحمل لك من المدرسة ومن خلال أصدقائى شيئا جديدا كل يوم. وعليك تحمل خطط التحايل، فنحن لدينا خطط جيدة جدا! لكن، أبى، أحد أصدقائى فى المدرسة أخبرنى أن والدته تركته وتركت الأسرة وذهبت إلى الهند البعيدة بسبب رتابة حياتها. هل تفكر أنت أيضا فى أمر كهذا؟ الأب: ألهذا تسأل يا حبيبى؟ الابن: ربما. ولأن أخى لؤى يقول إنك تحب السفر كثيرا وتحب الانتقال بين البلاد. الأب: عن نفسى، لن أبتعد عنكم أبدا. لكن أتفهم ربما أسباب رحيل والدة صديقك إلى الهند البعيدة كما تقول. أحيانا، مع. مرور السنوات، يعانى بعض الناس بشدة من رتابة الحياة ويفقدون الرغبة الإنسانية جدا فى البقاء بالقرب من أولادهم ويفقدون الاهتمام بالعمل وبالتفاصيل الأخرى، وقد يتمنون الرحيل عن الدنيا. هنا، يكون أفضل لهم الابتعاد عن حياتهم وعن أولادهم لفترة بحثا عن طاقة جديدة وإيجابية للعودة إليهم. وجيلى، نحن الذين تجاوزنا الأربعين كوالدة صديقك وكأبيك، يحلم دائما بالذهاب إلى البلاد البعيدة الغريبة، والهند تأتى على رأس قائمة هذه البلاد مثل البرازيل والأرجنتين وأحيانا أفريقيا. أتمنى أن تعود والدة صديقك قريبا إليه وإلى أسرتها، فالأمر بالتأكيد صعب عليهم جميعا. الابن: شكرا يا أبى. أنت فى جميع الأحوال تعيش فى أفريقيا، أليس كذلك؟ إذن، أنت لا تحتاج إلى الارتحال بعيدا. لتبقى فى مصر، وتبقى حياتنا بينها وبين ألمانيا كما نحن. ممكن يا أبى؟ الأب: أكيد يا حبيبى.