قد يثير فضولك قصة هذا القناع المكسو بلون الذهب الذى يقارب لون بشرة صاحبته، التي وقفت أمام مرآة تليق بمسرح قديم، مرآة صممت للحظة كشف وخلع قناع مزيف، لحظة إطلاق دموع خالطها كحل عينيها الفيروزتين. تشتبه وأنت تقرأ عن سيرة «فارتوهي»، الأرمينية الأصل مصرية الملاذ، أنها صاحبة صورة هذا الغلاف، يستغرقك الأمر نحو 300 صفحة لتتأكد من صدق حدسك من عدمه، وعلى مدى هذا التحري عن صاحبة الغلاف، تكون قد وطأت أراضي خضبها الروائي أحمد مراد بكثير من الورد والدماء والبارود. رقم فى رابع رواياته تتوقف عند عنوانها «1919» مليا.. تتساءل عما إذا كان هو عنوان لعالم «مصر سعد زغلول»، أم أنها شفرة جديدة لكاتب دأب على مفاجأة قرائه والدفع بهم لممرات لولبية لا نهائية الحيرة، مستعينا فيها أحيانا بحيلة الأرقام والألغاز كما فعل فى «الفيل الأزرق» التى تسابق حاليا لنيل جائزة الرواية العربية «البوكر» لهذا العام. عبر مراد محيط الزمن.. زمن قصده وآخر عبر عن نفسه، كان عرابي ورفاقه فى طليعة الأحداث، تاركين الحكم للزمن على ثورتهم التى سفهت يوما وسميت ب«الهوجة» معللين ذلك ب«سرعة قيامها وضعف تنظيمها»، وبعد النفي إلى «سيلان» واشتعال الحرب العظمى عام 1914 استنزفت البلاد وعاشت مصر تائهة «مجرورة مثل الجاموسة العشر خلف إمبراطوريات متغطرسة سعرتها الانتقامات والمطامع». اسكتش مقدمة سياسية لعمل مسرحي ضخم.. لا مكان للكوميديا به، وإن تخللته بعض «إسكتشات» حسن فايق و«سلطنة» بديعة مصابنى، فواصل استدعاها الكاتب إحكاما لمعطيات المرحلة التاريخية التى لم يدهس فيها الاحتلال ثورة البلاد الفنية، بل زادها وهجا «الفن ثورة فى حد ذاته.. والفنانين دول من أول الناس اللى نزلوا الشارع فى مارس.. الإنجليز منعوا العرض ده قبل كده، ومع ذلك مستمرين»، يحلل أحمد عبد الحى كيرة، بطل الرواية، المشهد الفنى الذى شابه الظرف السياسى، يتحدث لمحبوبته التى وطأت مسرح «الإجيبسانية» للمرة الأولى بصحبته، حديث كان يبرر الظرف الرومانسى المحرم بأمر تقاليد العائلات الكبيرة «اندمجت نازلى، تأملها أحمد تتمايل وتصفق مع كل مقطع وتنفطر ضحكا كطفل يرى الحياة لأول مرة ثم لمس تأثرها حين ظهر (الريحانى)، وذكر أن ذلك العرض شاهده سعد باشا قبل أن ينفى إلى مالطة». خاض أحمد مراد عوالم شخصيات من تاريخ ثورة 1919، بدءا من سعد زغلول وأم المصريين، وحتى الأميرة نانا التى ستصبح الملكة نازلى ذات الصيت الأكثر جدلا فى تاريخ القصر الملكى، وحتى فدائيى الثورة وعلى رأسهم أحمد عبدالحى كيرة الذى عاش فى تخف حياة قاسية ينتقم فيها لذكرى أب رافق سعد زغلول وقتل غدرا، ولأم باتت أسيرة منزل قاتم لا تدخله شمس إلا بحساب، أحاط بشخصياته التى تناولتها أوراق التاريخ، وصبغ عليها قبسا من خياله، وهالة من شخصيات روائية صرفة كشفت الكثير من خصوصيتها ربما لو منحتهم الحياة الفرصة لكانوا دونوها على جداريتها. بقايا كرامة «فمنذ فشلت ثورة عرابى والهواجس تكوى صدره، لا شىء أسوأ من ثورة مبتورة، ثور لم تحسن ذبحته وسيطيح بكل ما أمامه»، ظل سعد يتأمل هذا الوضع «مرت سنوات على سعد فى ايقاع تقليدى حتى لاحت بوادر الثورة بداخله ثانيا، طنين خافت لم يعد يتوقف، بقايا كرامة تتنفس، تشققت العلاقة بينه وبين الخديو لأنه لم يرض بالنفوذ الأجنبى فى الوزارة ليخرج من منصبه مدحورا بعد أن كان يستحق رئاسة الوزراء بحكم أقدميته، وما لبث الخديو أن نحاه عن الحياة العامة وضيق عليه سبل الحياة»، مقدمة أخرى لدورة اكتئاب سعد التى زينت له خطيئة القمار، والأهم من ذلك هو ذلك الخط الموازى الذى تلمحه مناطحا أياما تعيشها الآن فى مصر. ليس فقط الحديث عن «ثورة مبتورة» أو «أنصاف الثورات» ولكنك تقارب هذا الصوت الذى يبرر به المواطن «كتكوت»، وهو يستدرج ضابطا إنجليزيا، يبرر الاحتلال الإنجليزى لمصر لأن المصريين «شعب همجى وغير ناضج»، وهو ما كنت تسمعه على لسان حراس الحزب الوطنى المنحل تبريرا لعدم تغيير النظام قبل قيام ثورة يناير. «ما أسهل صنع شرخ بين ضفتى أمة راكعة، حكومة وشعبا، أعضاء وفد تنثر بذور الخلاف فتتوه الآراء وتشتعل منافسات السطة»، حديث تسمعه هذه الأيام بوتيرة واحدة، رغم أنها جاءت على لسان سعد زغلول فى غمرة مفاوضاته للاستقلال، تتأمل محتل أجنبى حل محله محتل داخلى شحمه ولحمه الخلاف السياسى المستعر فى الداخل. ورد تتوقف مليا عند الأسلوب الذى حاك به أحمد مراد روايته، لغة عربية محكمة تخالف توقعات قرائه الذين اعتادوا منه اللهجة العامية فى الحوار، الذى يعتقد هو أنها كانت تليق بشخصيات رواياته لاسيما فى «تراب الماس» و«الفيل الأزرق»، فالرواية تقع على طرف نقيض من بوصلة أعماله الروائية، ربما جعل من ذلك تحديا جديدا فى الكتابة بما فى ذلك اختيار النسج التاريخي واللغة بالغة العذوبة والوصف المتقن. شخصية «ورد» أو «فارتوهى» الأرمينية الأصل، فى حد ذاتها ملحمة تضاف لسجلات مذابح الأرمن التى ألهمت بقسوتها الكثير من أدباء العالم، ورغم ان هذه الشخصية غير معروف إذا كانت شخصية واقعية هى الأخرى أم أنها من نسج خيال الكاتب، فهى فى النهاية شاهدة على تشريد شعب، وانتهاك بكارة إنسانيته، مرة أخرى باسم المطامع السياسية التى لطخت أيدى الأتراك ووصمتهم إلى الأبد. وثبة زمنية الرواية تقع فى، 447 صفحة، وهى صادرة عن دار «الشروق»، وكتب لها الكاتب الكبير أحمد خالد توفيق كلمة الغلاف، «سيخطتفك فيها أحمد مراد فى آلة زمن ليهبط بك فى حقبة تغلى فيها القاهرة بالأحداث» (..) «شخصيات عديدة سوف تتعاطف معها أو تمقتها، أو تفعل الشيئين بلا تحفظ، بحوار مفعم بالحيوية حتى لتوشك على سماعه يتردد فى أذنك، وتفاصيل تاريخية مضنية ودقيقة، سوف تدرك أن البعض ما زال مصرا على الجدية والاتقان»، كلمات توفيق، وحسب ما قاله أحمد مراد فى ندوة أخيرة له فى كلية طب قصر العينى، قد كفته عن كتابة كلمة ملخصة عن الرواية لأن توفيق كتب تماما ما كان يريد أن يعبر عنه. استعان الكاتب بفواصل تاريخية بحتة لتختصر السرد التاريخى الذى قد يعيق السرد الروائى، من ذلك متابعة مسار «سعد» النضالى، وأخرى تبرز مراسلات بين قادة إنجليز، وفى النهاية جمع «مصير» شخصياته كطلقات الرصاص التى تودع فيها حياتهم التى كانت فى النهاية «إنسانية» بكل ما شابها من بطولة وانحراف، كان أشدها وطأة ذلك السطر الأخير فى حياة أحمد كيرة «مقبرة القديس يعقوب التى دفن فيها جسد أحمد عبدالحى كيرة تم هدمها عام 1928 وأقيم على أنقاضها ميدان تقسيم الشهير بإسطنبول!»