هذا الخطاب المفتوح هو محاولة منى عن بعد للتفكير معك بصوت عالٍ. إن الهدف الأساسى لأى سياسة نقدية فى العصر الحديث هو محاولة الحفاظ على مستويات معقولة من التضخم (inflation) وتقليل معدلات البطالة (unemployment). فمثلا أعلن البنك المركزى الأمريكى أنه مستمر فى سياسة التيسير الكمى (Quantitative Easing) حتى إنخفاض معدلات البطالة إلى ما دون 7 % وأنه سوف يحافظ على معدلات فائدة قرب الصفر حتى تنخفض معدلات البطالة إلى 6.5 %. وقد كان العامل الأساسى لإنجاح هذه السياسة أن معدلات التضخم استمرت منخفضة لفترة طويلة لأسباب تتعلق بالاقتصاد الأمريكى. ومع انخفاض معدلات البطالة فى أمريكا فى الأشهر الثلاثة الماضية فقد أعلن البنك المركزى عن نيته تقليل التيسير الكمى مما تسبب فى ارتفاع أسعار الفائدة طويلة المدى وانخفاض فى أسعار الذهب والسلع (commodities) وتأثير شديد فى أسعار أسهم الأسواق الناشئة بما فيها مصر. ولنبحث الأمر فى مصر. أولا نجد أنه نتيجة لعدم تحريك مستويات الأسعار للطاقة والكهرباء والنقل الجماعى والمياه والأسمدة فإن التضخم المكبوت (repressed inflation) مرتفع للغاية. كما أن التضخم مرشح للارتفاع إيضا نتيجة الظروف الأمنية وارتفاع سعر الدولار والسياسة النقدية التوسعية. كما أن ضعف المنافسة فى الفترة القادمة (نتيجة لشح رأس المال) سوف تكون سمة رئيسية تضع أعباء تضخمية على الاقتصاد. أسعار السلع مرشحة للارتفاع فى السنتين القادمين وعلينا إذا معالجة آثار زيادة الأسعار إن حدثت.. هذه جملة مهمة. ونتيجة لهدم مناخ الاستثمار فى مصر فى العامين والنصف الماضيين فإننا ندفع الآن الفاتورة فى صورة ارتفاع معدلات البطالة. كما أن عدم توفير الطاقة وبالذات غاز وكهرباء وسولار يضع مستقبل الاستثمار الصناعى فى مصر على الأقل فى الثلاث سنوات القادمة - على المحك. وبالتالى فإن معدلات البطالة للأسف مرشحة للتزايد على الأقل فى المنظور المتوسط مما يضع ضغوطا إضافية على الحكومة أى حكومة. هذا بالإضافة إلى أن تكلفة الإنتاج فى الشركات الصناعية والزراعية والعقارية زادت بنسبة 110 % (التضخم التراكمى فى السنوات العشر الماضية) ومرشحة للارتفاع فى الخمس سنوات القادمة. حدث هذا بينما انخفض سعر الجنيه أمام الدولار فى السنوات العشر الماضية بنسبة 25 % من 5.5 جنيه للدولار إلى 6.9 جنيه للدولار وتسبب ذلك فى انخفاض تنافسية المصدرين المصريين (competitiveness) بصورة كبيرة مما أثر على أرباحهم وبالتالى على استثماراتهم وبالتالى على خلق فرص عمل. ولم يعوض دعم الصادرات هذه الخسارة فى التنافسية. وأود أن أذكر القارئ أن معدل نمو 7 % يخلق حوالى 750 ألف فرصة عمل هى ما نحتاجه سنويا للحفاظ على أعداد العاطلين بينما نستهدف الحكومة هذا العام معدل نمو 3 %. أى أن أعداد العاطلين سوف تزداد. وذلك إضافة لنسبة بطالة رسمية حالية هى حوالى 13 %. كما أن عجز الموازنة العام الماضى بلغ 240 مليار جنيه فى العام المالى 1213(14 % من الدخل القومى) وبدون تعديل سعر الطاقة فى مصر فإن عجز الموازنة مرشح للارتفاع إلى 310 مليارات جنيه إن لم يكن أكثر فى العام المالى الحالى 1314(16% من الدخل القومى) وتعلمون سيادتكم أن أعباء التأمينات الاجتماعية وأوضاع الهيئات الاقتصادية وأوضاع شركات قطاع الأعمال العام بالإضافة طبعا إلى أن بنود الأجور والاستثمارات والفائدة سوف تزيد. هذا كله بينما متطلبات الشعب فى حياة كريمة تتمثل فى متطلبات حد أدنى للأجور وتعليم وصحة أفضل على أشدها بما يرشح لوضع ضغوط إضافية على عجز الموازنة. كما أن ارتفاع أسعار الفائدة عالميا سوف يضع ضغوطا إضافية. ويجب أن أذكر القارئ أيضا بعبء إضافى عليك متمثل فى أننا نواجه ذلك كله فى ضوء نسبة قروض للدخل القومى تبلغ رسميا 110% بينما هو فى الحقيقة يزيد على ذلك. كما أن إجمالى السيولة المتاحة للاقتراض محدودة بقدرة هذه البنوك على الاستثمار فى أذون الخزانة التى تطرحها. و لا تزيد هذه السيولة على 150 مليار جنيه. والعجز فى الميزان التجارى يبلغ أكثر من 15 مليار دولار تمثل تقريبا احتياجاتنا الاستيرادية من البترول سواء ما يتم استيراده من الخارج بالإضافة إلى تراكمات سنوية كبيرة لحصص الشريك الأجنبى (ما نشتريه من بترول وغاز الشريك ولا ندفع ثمنه حاليا) بالإضافة إلى الزيادة فى تسهيلات موردى الطاقة.وقد تحدثت أخيرا مع أحد خبراء الطاقة وهو يعمل فى شركة خاصة ولا يريد ذكر اسمه وقد أكد لى أن هذه الأرقام قريبة من الحقيقة. وللأسف الشديد فإن الضغوط السياسية الحالية تجعل من الصعب اللجوء لأسواق المال العالمية للاقتراض الدولارى فالتأمين على مخاطر عدم سداد الديون المصرية (credit default swap) مرتفع للغاية حتى وإن انخفضت فى الشهر الماضى إلى حوالى 650 نقطة. و تعلمون سيادة المحافظ أن الانخفاض الحالى مؤقت نتيجة وصول الودائع العربية. كما أن الاقتراض بالعملة المحلية من المستثمرين الأجانب خاصة صناديق التحوط (Hedge Fund) غير متاح حاليا. كما أن سوق رأس المال فى أحوال صعبة نتيجة الضغوط السياسية وبسبب عدم كفاءة الرئيس السابق لهيئة الرقابة المالية. ولك سيدى القارئ أن تتخيل أن الحاج سيد يعمل نجارا ويمتلك عمارة ورثها من والده وأن دخله الشهرى 5000 جنيه ويصرف فى الشهر 6500 جنيه ومقترض من البنوك 60000 جنيه وأن أولاده الستة يريدون زيادة فى المصروف لشراء كتب ودفع مصاريف المدرسة وشراء لعب و السفر إلى الخارج. كما أن الحاجة فاطمة زوجته تريد الذهاب إلى العمرة للمرة الخامسة على الرغم من مرضها واحتياجها لرعاية طبية وأن ماكينة الخياطة التى كانت تنتج بها قد تعطلت نتيجة عدم توافر سيولة لشراء قطعة غيار. وأن العجز المتمثل فى الفرق بين دخل الحاج سيد ومصروفه (1500 جنيه شهريا) بيستلف جزء منه من أخوه الصغير وبيقترض من البنك الباقى وأن البنك يقول له أنه سوف يستطيع إقراضه أقل من الماضى لأنه ليس لديها سيولة. سيادة المحافظ هذه هى الصورة الحقيقية. أعلم إنك «عملت من الفسيخ شربات» وإنك فعلا أحد صمامات الأمان المهمة لهذا البلد ولكن التحديات القادمة كبيرة. إلى اللقاء فى الأسبوع القادم لاستكشاف بصوت مرتفع سُبل المرور من فتحة الباب الموارب (ولا أقول من خرم الإبرة) إلى بر الأمان. مصر فعلا تستطيع أن تكون «قد الدنيا» ولكن مواجهة المشكلات بقوة وصرامة وعدل جزء من الحل.