ليست غايتى من هذه السطور مدح مصر، وإن كانت تستحقّ منّى، ومن الملايين الذين رضعوا من حليبها وانطلقوا بدفعة حانية من نيلها نحو أنهار أحلامهم (سواء كانوا يحملون جنسيّتها أو يعتتنقون هالة من هويّتها)، ما هو أكثر الحبّ والإمتنان. •••
يُطلق على هذا البلد العظيم لقب «أمّ الدنيا»، لكونه من ينابيع حضارة العالم والإنسان. فمنذ عصر الفراعنة وحتّى هذه اللحظة، ومصر لا تكفّ عن أن تكون مركزًا ومنارة، والضوء فيها ومنها متواصل عبر العصور، ويشعّ أكثر، من بشرها بالتحديد، فى الحقب الظالمة المظلمة.
لطالما استوقفنى اللقب الشهير، وفى كلّ مرّة، أبتسم للأمّ فيه، وأتجهّم أمام الدنيا. نعم، نصفه الثانى لا يليق بمصر برأيى، بسبب الدلالات السلبيّة، لغويًّا، لكلمة «دنيا».
مصر هى الأمّ دون منازع، رغم المحاولات البائسة، والمضحكة أحيانًا، لمنافسيها. أمّ الآداب والفنون وما يضىء ويضيف إلى الوطن العربيّ بأكمله، ولشعوبه العاشقة لمصر وشعبها. أمّ الإيمان بالفطرة، لا بالقشور والأقنعة. هى الأمّ المَحبّة، المُحبّة المعطاءة، بالغريزة. يا إلهى، من أين لها بهذه القدرة العبقريّة على الحضن والإبتسامة، والطبطبة على القلوب، رغم كلّ ما تعرضت له من قهر ونهب وعمليّات تقبيح؟ ومن أين لها فى كلّ يوم يمرّ على جراحها، بما لا يحصى من المعجزات الصغيرة؟
•••
سأسرد هنا موقفًا واحدًا، حدث معى شخصيًّا، فى أيّام دراستى الجامعيّة فى القاهرة، يختصر ما أودّ قوله عن أمومة الحياة فى مصر، وحنانها على الإنسان وأحلامه.
ذات يوم قاهرىّ خريفىّ، قصدنى صديق فى مقهى قريب من جامعتى يخبرنى أنّ أتيلييه القاهرة فى وسط البلد يقيم معرضًا بعنوان «الشعراء يرسمون». وأصرّ على أن أشارك، رغم دهشتى من دعوته وارتباكى حيالها، إذ أنّنى لم أكن قد لمست الألوان منذ طفولتى سوى فى مرّة يتيمة (والصديق المذكور على علم بها)، بالإضافة إلى أنّ مهلة تسليم الرسومات تنتهى فى ذلك اليوم ذاته. حاولت أن أتملّص من حماس الصديق، بالتحجّج بضيق الوقت، فأخرج لى على الفور من حقيبته الجلديّة ورقًا أبيض وعلبة ألوان خشبيّة، كالمارد الذى يلبّى الأمانى. لم أجد مفرًّا، فجلست فى المقهى أرسم طفلة على شكل فراشة وفزّاع طيور، وأزيّن رسمتيّ البدائيّتين بأبيات من شِعرى من الذاكرة. ثمّ قصدنا معًا محلّ براويز على بعد خطوات، أعرفه من مشاويرى فى المنطقة ولم يسبق لى التعامل معه، وطلبنا من الرجل القائم على المكان أن يبروز لنا الرسمتين على عجل، إن سمح وقته. أنجز الرجل عمله بودّ وإتّقان، وبسرعة أذهلتنى، وحين سلّمنى اللوحتين فى بروازين أنيقين، اكتشفت أنّنى لا أحمل معى ما يكفى من النقود لمحاسبته! وكذلك الصديق الذى، لفرط حماسه واستعجاله، نسى أنّه أنفق كلّ ما يحمله من نقود فى شراء أدوات الرسم! وهكذا وقعنا فى الموقف المحرج. لاحظ صاحب المحلّ خجلى وحرجى العميق حين طلبت منه أن أذهب إلى منزلى وأعود إليه سريعًا بالنقود، وإلى الصديق بما أنفقه على أوراقى وألوانى الجديدة، فابتسم ابتسامة لا أنساها، وقال:
«سامعكم بتقولوا يادوب نلحق. خدى شغلك يا بنتى وروحى بيه المعرض. ولو ربّنا سهّل والرسومات دى اتباعت، إبقى ارجعى بتمن البراويز. على مهلك وراحتك، وحسب ظروفك».
ثمّ نظر إلى الفراشة والفزّاع وأضاف:
«ولو ما اتباعتش، ولا يهمّك. اعتبرى البراويز دى هديّة. وابقى حاولى ترسمى حاجات تانية، زيّ الكبار ما بيرسموا.»
•••
يا له من رجل من ذهب المعادن، الحاج الأسمر الطيّب الذى تركنا وسط دهشتنا فى محلّه الصغير، وذهب إلى زاوية طاهرة منه ليؤدّى صلاته.
هذه هى مصر، وهذا هو شعبها. كما عرفتهم العصور وكما أعرفهم وأؤمن بهم. بأرواحهم وطيبتهم وكرمهم وثقتهم الواعية بالبشر وإيمانهم المطبّق بأفعالهم قبل الطقوس، ويضمائرهم الحيّة الحرّة. هذه هى مصر المحرضة على الحياة والجمال، ببساطة تتفرّد بها، وبدرس راسخ عن الحياة ونحوها، فى مواقف وتفاصيل عابرة مقيمة.
غايتى من هذه السطور أن أحيّى ذلك الرجل الشهم الخلوق، والذى عدت إليه فى اليوم التالى بالنقود، وبكلمات شكر لا تفيه حقّه. كيف نشكر إنسانًا بمثل هذا الخلق الرفيع وكرم النفس واليد والمطرقة والوجود، دون أن نشعر بتقصير؟ ألف تحيّة وشكر له، وملايين التحيّات لأمّ الحياة وبشرها، مصر التى أمام بسطائها، تصغر جميع الألقاب.