«ليس في حياة الأمة شيء فات، وشيء لم يفت.. إن الحاضر ابن شرعي للتاريخ، والغد استمرار متطور لليوم.. وإذا تركنا بقايا من تجارب سنوات مضت، تترسب في أعماق شعورنا، فلسوف تبقى هذه الرواسب دائمًا حواجز تحجب الرؤية الصافية، وتعوق التطلع الشفاف إلى المستقبل».. (كتاب: نظرة إلى مشاكلنا الداخلية على ضوء ما يسمونه "أزمة المثقفين" – محمد حسنين هيكل). عبارة تلخص قيمة الرجل، فقد تمكن «الأستاذ» ببراعة من قراءة التاريخ، الذي كان شاهدًا على نقاط دقيقة في صنعه، فسر من خلالها أحداث الحاضر، وفتح الباب واسعًا؛ لتوقع دقيق لما سيحدث في المستقبل، وليس هذا غريبًا عليه، فكاتبنا الذي ولد في مثل هذا اليوم قبل 89 عامًا، صاحب تجربة إنسانية فريدة، دخل خلالها من بوابة الصحافة إلى عالم السياسة، ووصل فيها لمكانة لم يصل إليها غيره من الصحفيين؛ ليشارك في صنع القرار في فترة مهمة من تاريخ الأمة العربية.
بدأ هيكل عمله الصحفي في «إيجيبشان جازيت»، التي كانت المطبوعة الصحفية الأولى في مصر، عندما بلغ عامه التاسع عشر، من «العلمين»؛ لتغطية أشرس معارك الحرب العالمية الثانية، ومنها إلى الحرب في مالطا، ثم استقلال باريس؛ لينتقل بعدها إلى العمل في «روز اليوسف»، بدعوة من مالكتها فاطمة اليوسف، في عام 1944، ومنها إلى «آخر ساعة» مع مؤسسها محمد التابعي، ليغرد بتحقيقه المصور عن «خط الصعيد»، وينتج بعده في اختراق قرية «القرين» بمحافظة الشرقية، التي أغلقت بعد تفشي وباء الكوليرا بها، لينفرد بسلسلة تحقيقات بعنوان «الحياة في قرية الموت»، حصل بعدها على جائزة «فاروق الأول للصحافة العربية»، والتي كانت أرفع الجوائز الصحفية في ذلك الوقت.
ولم يكد الصحفي الشاب ينتقل للعمل في أخبار اليوم، حتى قاده عمله الصحفي إلى متاعب جديدة، فمن «سالونيك» حيث غطى الحرب الأهلية اليوناني، سافر إلى فلسطين، ليتحف قراءه بسلسلة «النار فوق الأرض المقدسة»، عن تغطية حرب 1948 من أولها لآخرها.
ومن فلسطين إلي سلسلة الانقلابات العسكرية في سوريا، ثم اغتيال الملك عبد الله في القدس، إلى اغتيال رياض الصلح في عمان، إلى قتل حسني الزعيم في دمشق، ثم ثورة مصدق في إيران، ثم أغطي المشاكل الملتهبة في قلب أفريقيا، تلتها حرب كوريا وحرب الهند الصينية الأولي.. ظهر بوضوح أن نجما متألقا يلمع في رحاب «صاحبة الجلالة»
وحمل يوم 18 يونيو 1952 مفاجأة لقراء مجلة «آخر ساعة»، فعلي أمين، الذي كان وقتها رئيسا للتحرير، يخصص مقاله للحديث عن الصحفي الشاب، ليقدم في نهايته هيكل، الذي لم يكن قد تجاوز حينها عامه ال29، كرئيس جديد للتحرير.
وشكلت علاقة كاتبنا بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر نقطة مهمة في تاريخه، فلقائهما الأول تم خلال حرب فلسطين، عام 1948، كان هيكل صحفيا على جبهة القتال، وكان ناصر قائدا شابا لكتيبة ذاع صيته بعد نجاحه في صد العدوان الإسرائيلي على قرى فلسطينية، وهناك تقابلا عدة مرات.
وبعد نهاية الحرب، وفي أواخر عام 1949 قاد تطلع عبد الناصر لمتابعة الانقلابات في سوريا ومدى قبول الشعب لها إلى مكتب هيكل في القاهرة، وهو ما تكرر في عام 1951، ليطلب الضابط الشاب نسخة من كتاب «ايران فوق بركان»، الذي كتبه هيكل في نفس العام، تلاها عدة زيارات ولقاءات.
ومع بداية الثورة وجد هيكل نفسه وسط القيادة، يشرح كيف لن يتمكن الانجليز من التدخل لإفساد الثورة، أما اللقاء الأول بعد الثورة فكان بعد يومين من إعلانها حيث كان يناقش أعضاء مجلس قيادة الثورة مصير الملك المخلوع فاروق، ولفتت نظره عبارة قالها عبد الناصر لزملائه: «يا جماعة اقرءوا قصة مدينتين، الدم سيأتي بمزيد من الدماء» ولفت ذلك نظر هيكل الى أنه يقف أمام شخص قرأ رواية وفهم رموزها.
ومنذ قيام الثورة وحتى وفاة ناصر، توطدت علاقته بهيكل، كان حينها كاتبنا أكثر الصحفيين فهما لطبيعة المرحلة، وكان الزعيم يحتاج لمن يترجم أفكاره إلى مادة مكتوبة، وكانت الثمرة كتاب «فلسفة الثورة» لجمال عبد الناصر، والذي قام هيكل بتحريره. كان ناصر يطلعه علي التقارير، ويأخذ رأيه في اغلب القرارات، وأصبح الصحفي هيكل واحدا من رجال السياسة المصرية، ولسانا فصيحا للحقبة الناصرية.
وتولى هيكل إدارة وتحرير جريدة «الأهرام»، لتصبح واحدة من الصحف العشرة الأولى في العالم، ويظهر على صفحاتها بمقاله «بصراحة»، ليتابع العالم العربي من خلاله ما يكتبه شاهد على الأحداث الجسام التي مرت بالأمة حينها، خصوصا أن حسه الصحفي ورؤيته المتعمقة أتاحت له إمكانية استقراءها وتفنيدها وعرضها على القارئ بلغة سهلة وأسلوب مشوق.
وفي 1970، مات ناصر وخلفه أنور السادات، وبدأ التصارع على السلطة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، قبل أن يحسمه السادات ب«ثورة التصحيح» في مايو 1971، ليصفه هيكل بعدها ب«القائد التاريخي»، وابتعد هيكل بعدها تدريجيا عن دوائر صنع القرار، لكن نجمه الصحفي استمر في الصعود. بدأ التوتر بينهما بخروج هيكل من الاهرام، وانتهت بحبسه في أواخر عهد السادات، في اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة، لينتهي «خريف الغضب» في 6 أكتوبر من نفس العام باغتيال السادات.
و«من المنصة إلى الميدان».. لخص هيكل فترة حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك لمصر، ظل يبشر في كتاباته وظهوره التليفزيوني بتحرك الشعب المصري، فالرئيس الذي أخرج هيكل من المعتقل في بداية حكمه كان في نظر هيكل «رجل المرحلة الانتقالية»، لكن هذه المرحلة طالت لتصل إلى 30 عاما.
عن هذه الفترة يقول «الأستاذ»: «اعتقدت حينها أنه سيكون رئيسا لفترة وجيزة، فهو جاء من الجيش المصري، المؤسسة الوطنية المحبوبة، ورأى بعينه مقتل السادات على يد شعبه، فهو كان حاضر المشهد واعتقدت أنه يجب أن يكون تعلم هذا الدرس المأساوي عن الشعب المصري حين ينفذ صبرهم وفكرت أنه قد يكون جسرا جيدا يمكن العبور من خلاله إلى المستقبل».
اختار هيكل أن يكون معارضا لنظام مبارك، ووصفه في حوار للصحفي البريطاني روبرت فيسك ب«أنه يعيش في عالم من الخيال في شرم الشيخ»، وقال عنه بعد 25 سنة من حكمه: «مبارك كان بالفعل طيارا جيدا، ولكنه لكي يبدأ حياته كسياسي بعد الخامسة والخمسين، فإن هذا يتطلب جهداً كبيرا، إن حلمه الأساسي كان أن يصبح سفيرا وأن يكون جزءا من النخبة، والآن بعد أن مر خمسة وعشرون عاما على رئاسته، لا يزال لا يستطيع تحمل أعباء الدولة».
قامت الثورة التي طالما استشرفها هيكل بشفافيته المعهودة، من خلال قراءته الدقيقة للتاريخ، وتحليله المنضبط للحاضر، ورؤيته الثاقبة للمستقبل، وعن ذلك يقول: «كنت متأكدا أن بلدي ستنفجر ولكن الشباب كانوا أكثر حكمة منا».
يعتبر «الأستاذ» أن «مبارك خان روح الجمهورية، ومن ثم أراد الاستمرار عن طريق ابنه جمال.. التوريث لم يكن فكرة وإنما مشروع، لقد كان خطة خسرت مصر بسببها الكثير في العشر سنين الأخيرة، كما لو كانت مصر سوريا جديدة».
ويستطرد هيكل: «أنا كنت علي يقين أنه ثمة انفجار وشيك، وما أذهلني هو تحرك الملايين.. كنت أشك في أني سأعيش لأرى هذا اليوم، لم أكن متأكدا أني سوف أرى قيام هذا الشعب».
أصدر الأستاذ مجموعة فريدة من الكتب، كشفت كثيرا من خبايا السياسة في وقتها، من بينها «العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط»، و«نظرة إلى مشاكلنا الداخلية على يسمونه أزمة المثقفين» و«خبايا السويس» في 1966، و«الاستعمار لعبته» في 1967، و«أكتوبر 1973 السلاح والسياسة»، و«خريف الغضب» عن فترة حكم السادات، و«المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل»، و«الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية»، و«عواصف الحرب وعواصف السلام»، و«سلام الأوهام، أوسلو ماقبلها وما بعدها»، ختاما بكتابه «مبارك وزمانه .. من المنصة إلى الميدان». يبدي الأستاذ تخوفه من المرحلة الحالية «لآن لدينا نصف سياسيين يريدون أن يستغلوا مزايا الثورة المصرية، فبعض منافسي مبارك على أتم استعداد لتزكية أنفسهم، ولكن النظام ينبغي أن يتغير، فالشعب عرف ماذا يريد، إنه يريد شيئا مختلفا».
تسع عقود توشك على الاكتمال من مسيرة علامة مميزة في تاريخ الصحافة والسياسة، وعام جديد من حياة «الأستاذ» يميزه أنه يبدأ في عهد رئيس جديد، «مدني» و«إسلامي»، للمرة الأولى من تاريخ مصر.. ننتظر من كاتبنا الكبير تحليلا عميقا للواقع، واستشرافا شفافا للمستقبل.. كل عام وهيكل بيننا.