لا خلاف على مكانة الأستاذ محمد حسنين هيكل الصحفية والسياسية فى مصر والعالم العربى والتى امتدت إلى آفاق عالمية.. لم ينازعه فى مكانته وشهرته غيره من عمالقة الصحافة، وهى مكانة احتلها باستحقاق عن كفاءة مهنية رفيعة المستوى وذكاء سياسى بالغ التوهج، وهى مكانة أسهم فى تحققها بقدر كبير اقترابه الشديد واللصيق بالرئيس عبد الناصر طوال ثمانية عشر عاما.. منذ اليوم الأول لثورة 23 يوليو 1952، وحتى رحيله فى الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970. ذلك الاقتراب اللصيق بالرئيس عبدالناصر أتاح للأستاذ هيكل ما لم يتح لسواه من كبار الصحفيين بل من كبار المسئولين، من حيث الاطلاع على كل ما كان يجرى فى كواليس الرئاسة وفى مطبخ السياسة المصرية.. الداخلية والخارجية، وحتى اجتماعات ولقاءات عبد الناصر بالزعماء والرؤساء العرب والغربيين، لم يكن هيكل بعيدا عنها.. بل كان حاضرا ومشاركا، وكما يعلم الكثيرون من السياسيين المعاصرين لتلك السنوات، فإن هيكل لم يقتصر دوره أو يتوقف اقترابه عند الاطلاع فقط.. بل كان فى كثير من الأحيان مشاركا بالرأى والمشورة والاتصالات فى صنع القرارات والتوجهات والسياسات الناصرية. ولقد كان هيكل- وحسبما اتضح بعد رحيل عبد الناصر- هو الوحيد المسموح له بالحصول على صورة من كل وثيقة من وثائق الرئاسة والدولة المصرية، وهى ميزة بالغة الأهمية وشديدة الخصوصية لم تتح أيضا لغيره من كبار المسئولين. وبحكم حساسيته المهنية المفرطة وذكائه السياسى المتّقد، فقد ظل محتفظا فى أرشيفه الخاص بكل تلك الوثائق، وهى بكل المقاييس ثروة صحفية لا تقدر بثمن وكنز من الأسرار والمعلومات السياسية والتاريخية لا ينضب.. انفرد بهما الأستاذ هيكل، جعلته لا يزال مصدرا مهما للمعلومات الموثقة عن واحدة من أهم المراحل السياسية المصرية وأكثرها خصوبة وأشدها معارك.. حربية وسياسية.. داخليا وعربيا ودوليا. وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الأستاذ هيكل.. صحفيا وسياسيا، ومع آرائه ومواقفه السياسية سواء عندما كان قريبا من قمة السلطة وفى بؤرة الضوء.. رئيسا لتحرير «الأهرام» أهم وأكبر وأعرق الصحف المصرية والعربية، أو بعد رحيل عبد الناصر وخلافه مع السادات الذى أقصاه عن موقعه الصحفى وعن مكانه القريب من قمة السلطة، إلا أنه يبقى أن هيكل ظل محتفظا بمكانته الصحفية والسياسية مصريا وعربيا ودوليا، بفعل ما يمتلكه من معلومات وأسرار وكفاءة رفيعة المستوى، وأيضا بحكم علاقاته بزعماء وسياسيين عرب وغربيين. هذه المكانة المهنية والسياسية لم ينتبه إليها الرئيس السادات حين غضب مبديا دهشته كيف يستقبل الرئيس الفرنسى ميتران هيكل وقد تم فصله من رئاسة تحرير الأهرام، إذ غاب عن السادات- رغم اشتغاله بالصحافة فى مرحلة من حياته- أن الصحفى بوجه عام ليس موظفا يفقد مهنته بعد إقالته أو تقاعده، أما فى حالة هيكل وهى شديدة الخصوصية فإنه كان من المستحيل أن يتوارى بقرار رئاسى. وفى المقابل، فإن هيكل الذى كان عرّاب ثورة يوليو والسياسات الناصرية والشارح والمرّوج لهذه السياسات والمتحدث باسم عبد الناصر طوال ثمانية عشر عاما من خلال مقاله الأسبوعى الشهير (بصراحة).. لم ينتبه أيضا إلى أن الحقبة الناصرية قد انتهت برحيل عبد الناصر، وأن مرحلة جديدة فى السياسة المصرية قد بدأت برئاسة أنور السادات، وغاب عنه أن لكل مرحلة سياساتها وتوجهاتها وأيضا وبالضرورة رجالها ولم يكن ممكنا أن يكون هيكل من رجال السادات ومرحلته لأسباب واعتبارات سياسية وشخصية، ومن هنا بدأت الخلافات التى تحولّت إلى خصومة إن لم يكن عداء. وإذا كان من الممكن تفّهم دوافع السادات الشخصية والسياسية لإقصاء هيكل عن رئاسة تحرير «الأهرام».. سبيلا لإقصائه أيضا عن دائرة الضوء الصحفى والسياسى.. ورفضا لما اعتبره السادات ممارسة هيكل للوصاية عليه وعلى نظامه وسياساته، فإنه بدا من غير الممكن تفّهم دوافع السادات لاعتقال هيكل ضمن ألف وخمسائة سياسى معارض سجنهم قبل اغتياله بشهر واحد، وهى الفترة التى وصفها هيكل ب «خريف الغضب» حسبما جاء فى عنوان كتابه الشهير الذى أصدره بعد خروجه من السجن فى بدايات حكم الرئيس حسنى مبارك الذى أفرج عن كل السياسيين الذين اعتقلهم السادات. ورغم أهمية كتاب «خريف الغضب» لما تضمنه من رصد وتحليل سياسى وتاريخى إلا أنه كان من غير الممكن تفّهم أو قبول ما جاء فى أحد فصول الكتاب عن أسرة السادات وخاصة عن والدته، وحيث بدا تجريحا وتجريسا وانتقاما غير إنسانى وغير لائق بأكثر مما كان تأريخا أو حكيا أو تحليلا، وهو الأمر الذى كشف عن المرارة الشديدة التى يستشعرها هيكل وجعلته يتجاوز حدود الخلاف والخصومة إلى العداء والتجريح والتشفّى والانتقام! واقع الأمر فإنه بقدر ما لم تنتقص خصومة السادات لهيكل من قيمة هيكل الصحفية والسياسية بقدر ما لم تنتقص خصومة هيكل للسادات من زعامة السادات وإنجازه التاريخى فى إحراز نصر أكتوبر وتحرير سيناء، غير أنه تبقى الخلافات والخصومات والعداوات.. كلها من طبائع البشر حتى وإن كانوا زعماء أو مفكرين.. إن طبائع البشر هى التى دفعت الأستاذ هيكل فى حديثه قبل أسبوعين فى قناة «الجزيرة» وبعد أربعين سنة من رحيل عبد الناصر وتسع وعشرين سنة من اغتيال السادات إلى تفجير تلك القنبلة المدوّية التى تناثرت شظاياها فى الشارعين المصرى والعربى فأصابت الجميع بالدهشة والاستياء. لقد أثار الأستاذ هيكل عاصفة الغضب حين استدعى ذكرى وفاة عبد الناصر وذكر واقعة لم يسبق ذكرها عن «فنجان» القهوة الذى قال إن السادات أعده لعبد الناصر أثناء انعقاد القمة العربية فى سبتمبر عام 1970.. مشيرا إلى شائعة أن السادات وضع السم فى فنجان القهوة لعبد الناصر ومات متأثرا بهذا السم بعد ثلاثة أيام. ورغم نفيه للشائعة للأسباب التى وصفها بالإنسانية والعاطفية والسياسية، إلا أن ذكره لها فى ذلك الفضاء الإعلامى الواسع يعد فى حقيقة الأمر نشرا لها يثير البلبلة على أوسع نطاق، إذ سوف يتوارى النفى ويتبدّى الاتهام فى صورة الشائعة. هل هى مصادفة أم مفارقة أن الثلاثة عبد الناصر والسادات وهيكل على موعد مع الخريف.. ميلادا وموتا وغضبا، إذ جاء مولد هيكل فى أول أيام الخريف.. الثالث والعشرين من سبتمبر، بينما رحل عبد الناصر فى الثامن والعشرين من نفس الشهر، واغتيل السادات فى السادس من أكتوبر، وحيث كان «خريف الغضب» وها هو هيكل يثير الغضب مجددا فى خريف 2010. لقد كان من الممكن أن تتحول عاصفة الغضب التى أثارها هيكل بحديثه عن فنجان القهوة المسموم الذى سقاه السادات لعبد الناصر إلى إعصار سياسى، إلا أن الخلفية التاريخية لخصومته الشخصية مع السادات أخمدت العاصفة.. ولم تزد على «زوبعة فى فنجان».