فى تاريخ الثورات كتاب أحرار هم أقرب إلى الأنبياء، وملوك «صعاليك» يريقون دماء شعوبهم من أجل البقاء فى المناصب، ونبلاء وأثرياء يبدلون التحالفات السياسية بين الأطراف المتصارعة لضمان الحفاظ على مصالحهم الطبقية، ورجال دين يغيرون رسالتهم السامية بأفكار تغتال الأصوات الحرة وتدافع عن الاستبداد، تلك كانت صورة التاريخ الثورى كما رواه المفكر المصرى الكبير سلامة موسى، فى «كتاب الثورات». يقدم سلامة موسى فى كتابه قراءة اجتماعية لتاريخ الثورات الغربية، حيث يعتبر أن المحرك الرئيسى لتلك الثورات دائما ما كان يأتى من خلال «انتفاض طبقة لا تطيق القيود المفروضة عليها.. وهى تستعين بالشعب بعد أن تبسط له قضيتها العادلة، وهو ينضم إليها فتكون الثورة الشعبية». ومن هذا المنطلق ظهر أول تغيير سياسى بارز فى انجلترا على يد طبقة النبلاء الذين لم يطيقوا فرض الملك «جون» ضرائب جديدة عليهم، وكانت تلك الطبقة هى القوى الفاعلة فى المجتمع وقتها عام 1215، حيث كان الشعب فى «غيبوبة»، وتسببت تلك المواجهة بين الملك والنبلاء إلى اجبار حاكم البلاد على توقيع «الميثاق الأكبر»، الذى نص على المجلس العالى للدولة، والذى كان بذرة انشاء البرلمان، ليحول دون اجتراء الملك على فرض ضريبة جديدة دون موافقة النبلاء. وبعد مرور 400 سنة، نشأت طبقات جديدة من التجار وصغار الملاك والمصنعين، كما انتشر بين عامة الشعب المذهب «البروتستانتى» بما فيه من أفكار تحررية، لتصبح الظروف جاهزة لقيام ثورة جديدة فى مواجهة الملك المتعالى على الديمقراطية «تشارلس الأول».
أراد تشارلس أن يقيد البرلمان الذى كان من إنجازات الثورة الأولى، فوقف بمنتهى الغرور أمام أعضاء المجلس قائلا «تذكروا أن البرلمانات فى يدى أدعوها وأعقدها وأحلها، وعلى قدر ما أجد فيها من ثمرات حسنة أو سيئة أبقيها أو ألغيها».. «لا تعدوا هذا تهديدا لأنى أربأ بنفسى أن اهدد أحدا ما لم يكن مساويا لى».
ولم تأت ثقة تشارلس فى مواجهة النبلاء والشعب من فراغ، فقد كان رجال الدين يلعبون دورا مهما فى حشد التأييد له، واعتبر موسى أن هذه الحالة تمثل قاعدة فى تاريخ الثورات بقوله «وإليك قاعدة يجب ألا تنساها فى كل ثورة على المستبدين نجد رجال الدين ورجال القانون ينصرون النظام القائم ويكرهون التغيير لأنهم جميعهم يعيشون بالنظام القائم».
وقدم تشارلس لرجال الدين الموالين له معروفا، بفرض عقوبات قاسية وصلت إلى حد السجن مدى الحياة على مفكر بريطانى يدعى، ليتون.
واستطاع الطاغية الانجليزى بالفعل أن يعطل البرلمان إحدى عشرة سنة، بل وألف «محكمة النجمة» التى كانت تجول أنحاء البلاد وتلقى القبض على دعاة الثورة وتلقيهم فى السجون.
إلا أن تلك الأجواء الظلامية، واجهها كتاب شرفاء أيقظوا الحس الثورى فى قلوب المواطنين، يذكر موسى منهم الكاتب والشاعر ملتون، الذى ألف للبسطاء كتابا عن «الدين الحق»، فيقول «إنه الكرامة، إنه الحرية، إنه الضمير النقى، إنه العدل» ويعلق موسى على ذلك «كلها خصال لا يعبأ بها الملك النذل ولو أنه كان يحمى رجال الكنيسة الذين يؤيدونه».
وهى التطورات التى قادت إلى اصطدام الشعب الانجليزى بالملك، فى معركة مات فيها الكثيرون، وعندما استشعر الملك بالهزيمة بدأ فى إبداء مرونة مع الشعب، ولكنه فى الوقت نفسه كان يفاوض «الأنذال» من ملوك أوروبا كى يعينوه على قمع الثورة، وفى النهاية ألقى القبض على تشارلس وحوكم وقطعت رأسه. ولم تنته المعركة الثورية بمشهد مصرع الملك، فقد سعى «تشارلس الثانى» إلى الانتقام لأبية بعد تتويجه على المملكة، بالرغم من أنه أعلن أنه لن يكرر أفعال أبيه.
لم يتعلم الملوك التالون للطاغية تشارلس من الدرس، واستمرت الممالك الأوروبية فى دائرة الترهيب والقمع التى يقابلها أصوات حرة تشعل الثورات، لتبدأ الثورات بسيناريوهات إصلاحية يحاول المستبدون الالتفاف عليها لوأد الثورة.
كان هو نفسه السيناريو الذى عرفته فرنسا، حيث مارس الجهاز الأمنى للبلاد أسوأ أشكال القمع ضد المواطنين، وصل إلى حد تسليم الملك «لويس السادس عشر» أوراقا بيضاء للنبلاء عليها توقيعه، تمكّن النبيل من الأمر باعتقال من يشاء فيسلم فورا «للباستيل».
وفى المقابل لذلك تم تأليف جمعية من الشعب باسم «الجمعية الوطنية الدستورية» كان الشعب يؤيدها وكان الملك يحاربها.. وأعلنت هذه الجمعية حقوق الإنسان.
واجه آخر قياصرة روسيا «نيقولا الثانى» أيضا، غضبة الشعب المتمثلة فى ثورة روسيا عام 1905، مما اضطره إلى التسليم بإنشاء برلمان، واجتمع برلمان «الدوما» ثلاثة شهور فقط ولم يطقه القيصر أكثر من ذلك فحله. «ثم جعل يلعب بالبرلمان فإذا كان الأعضاء خاضعين يحنون الرءوس فإن البرلمان يبقى وإذا قالوا لا فإن البرلمان يغلق»، وتطورت المواجهات بين الاستبداد والتطلعات الديمقراطية إلى أحداث ثورة 1917 البلشفية.
فى تلك الثورات وغيرها، كانت دائما الأصوات الحرة الجريئة فى فترات القمع هى التى تتحمل أقسى المواجهات لتضىء الطريق للثورات كى تكمل طريقها ف«هؤلاء الكتاب هم أصدقاء الإنسان الذين وقفوا فى صفوف الشعب وقالوا بالحرية ودعوا إلى الاخاء.. وكلماتهم هذه هى التى أدبت الملوك وعاقبت الطغاة وعممت الكرامة بين الناس.. ربما كان الأدباء أقرب الناس إلى الأنبياء».
ومن أنصع النماذج على الأصوات الحرة التى عرضها موسى فى كتابة المفكر البريطانى توم بين، الذى أيقظت كلاماته وعى الشعب وعلمته التمرد على الحق الذى يدعيه الملوك لأنفسهم فى الاستبداد بمقدرات البلاد، بكلمات كتلك التى يتساءل فيها «أنت ملك! ولماذا؟ بأى حق تحكمنا؟ ألأنه كان لك جد لص قبل خمسمائة سنة غزا إنجلترا ونهب سكانها وشردهم وقتلهم؟!».