صدر عن وزارة الثقافة في قطر كتاب بعنوان "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ل "عبد الرحمن الكواكبي" ، حيث أعادت مجلة الدوحة الثقافية طبع الكتاب الذي يقع في عشرة فصول؛ وذلك احتفاءً بثورتي تونس ومصر. ومما يُدهش القارئ هذا التطابق الفريد، لما ورد في كتاب عبدالرحمن الكواكبي، منذ أكثر من مائة عام، وما انطبع عليه الحكام والأنظمة العربية من استبداد، خلال نصف القرن المنصرم، وكأنما يستشرف الرجل المستقبل بكل تفاصيله، أو يقرأ الغيب، مستضيئًا بسنوات الاستبداد العثماني، قبيل سقوط الخلافة، التي كانت سوريا – محل ميلاد الكواكبي- تئن من وطأتها، حتى إن ما ذكره يكاد ينطبق حرفيًّا على الوضع العربي الراهن، الذي يشهد استبدادًا غير مسبوق، بل يكاد ينطبق على حكام بعينهم ممن يتحدثون كحكماء أو كمهرجين، ونجدهم يتصرفون كقتلة وسفاحين، وينطبق أيضًا على الأنظمة التي استأسدت على شعوبها، واستخدمت آلتها العسكرية من أجل البطش بها، تلك الآلة التي لم تستخدمها مع أعدائها قط، وظنت أنها نجحت بالإرهاب والتنكيل في إخضاع شعوبها، لكن إرادة الشعوب هي الغالبة في نهاية الأمر. قدم للكتاب الناقد الدكتور محمد لطفي اليوسفي، الأستاذ بجامعة قطر، الذي رأى أن الكتاب ليس مجرد تحليل للاستبداد؛ إنما اعتبره مواجهة عنيفة للمستبد ولمقولة الاستبداد نفسها، ووصف الاستبداد بكونه داءً لا يمكن التخلص منه بالرفق والهدى واللين، مشيرًا إلى أن الكواكبي حاول خلال كتابه تعقب مظاهر الاستبداد وأفعال المستبد وفظائعه، وطرح اليوسفي خلال تقديمه للكتاب مجموعة الأسئلة التي طرحها الكتاب: ما هو الاستبداد؟.. ما سببه؟.. ما أعراضه؟.. ما سيره؟.. ما إنذاره؟.. ما دواءه؟.. ما هي طبائع الاستبداد؟.. لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟.. لماذا يستولي الجبن على رعية المستبد؟.. ما تأثير الاستبداد على الدين؟ على العلم؟ على المجد؟ على المال؟ على الأخلاق؟ على الترقي؟ على التربية؟ على العمران؟. وأوضح أن هذه الأسئلة هي التي رسمت فصول الكتاب وأقسامه، مشيرًا إلى أن الكواكبي قد خاض من خلال كتابه إلى عمق النتيجة التي كان ابن خلدون قد توصل إليها حين جزم بأن الظلم لا يفسد الحياة فحسب؛ بل يعطلها ويبيدها، وأكد اليوسفي أنه من الراجح أن اليد التي امتدت لدس السم في فنجان قهوة لتودي بحياة الكواكبي كانت يد أحد سدنة المستبد الذي نجح كتاب الكواكبي في جعله فضيحة أمام الناس. وأهدى الكواكبي الكتاب إلى الشباب بقوله: هذا الكتاب سميته "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وجعلته هدية مني للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة على نواصيها، ولا غرو فلا شباب إلا بالشباب، ووصف كتابه بأنه كلمة حق في وادٍ إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدًا بالأوتاد. ولقد بدأت نبوءة الكواكبي تتحقق على أيدي الشباب في تونس ومصر، وبدأت أوتاد عروش المستبدين تزلزل في أكثر من بلد عربي. ما هو الاستبداد؟ ويقول الكواكبي في تعريفه للاستبداد لغويًّا أنه غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة، والاستبداد في السياسة هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف. ويرى أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه في الشورى الدستورية، وأن الاستبداد هو التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى، ويحدد أطرًا أساسية يطرحها كالتالي: ما هو الاستبداد؟ وما سببه؟ وما أعراضه؟ وما دواؤه؟ وما هي طبائع الاستبداد؟ ولماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ وما تأثير الاستبداد على الدين والمال والأخلاق والتربية والعمران؟ ومن هم أعوان المستبد؟ وما الذي ينبغي استبداله بالاستبداد؟. يرى الكواكبي أن الاستبداد لا يتوقف على الحكام والحكومات؛ بل يُلقي بظله على أفراد المجتمع ككل، فكل منا مستبد بدرجة أو بأخرى، فيقول: يراد بالاستبداد، استبداد الحكومات خاصة، لأنها أعظم مظاهر أضراره، التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة، وأما تحكم النفس على العقل، وتحكم الأب والأستاذ والزوج، ورؤساء بعض الأديان، وبعض الشركات، وبعض الطبقات، فيوصف بالاستبداد مجازًا، والاستبداد في اصطلاح السياسيين، هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة. وفي وصف الاستبداد يضيف: الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلًا، أو حكمًا، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية أو حساب ولا عقاب.. كما أن صفة الاستبداد تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة، وأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان، هي حكومة الفرد المطلق، والوارث للعرش، والقائد للجيش. ويقر الكواكبي بأن من علامات غياب الاستبداد وجود الشورى الدستورية والحكم المنتخب بإرادة شعبية وسيادة العدالة الاجتماعية، فيقول: ويخف الاستبداد مع الحاكم المنتخب المؤقت المسئول فعلًا، وكلما قلّ الارتباط بالأملاك الثابتة، وقل التفاوت في الثروة، كلما ترقى الشعب في المعارف، كما يؤكد أن غياب الشفافية هو أحد مظاهر الاستبداد. دلائل وعلامات الاستبداد وللاستبداد دلائل وعلامات، منها ما عمد إليها المستبد لإرهاب شعبه وإضفاء صفة المهابة على حكمه، وهنا يقول الكواكبي: يقول أهل النظر: إن خير ما يُستدل به على درجة استبداد الحكومات هو مغالاتها في شنآن الملوك وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسيم التشريفات وعلائم الأبّهة، التي يسترهب بها الملوك رعاياهم، وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبد كما يلجأ قليل العز للتكبر، وقليل العلم للتصوف، وقليل الصدق لليمين. ولأن الاستبداد ينتعش في الأمم التي يتعاظم فيها الجهل أو الأمية فإن الكواكبي يقول: الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إرادة مستبدة تسعى جهدَها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. لذا فإن في شيوع الاستبداد، تراجعًا للعلوم والمعرفة، وتردِّيًا لمكانة العلم؛ حيث يسهل للمستبدين السيطرة وإحكام قبضتهم على زمام الأمور في أمة متخلفة، وإذا كان أول ما حض عليه الإسلام هو العلم والجد في طلبه أينما وجد، فقد صار العلم متاحًا لسائر أبناء المجتمع، ولا يختص به أناس عن غيرهم. وعن نموذج المستبد العادل الذي يستخدم سياسة العصا والجزرة يقول الكواكبي: إن الشرقيين يريدونه، وإن هذا المستبد يستعمل أيضًا مع الأصلاء سياسة الشد والإرخاء، والمنع والإعطاء، والالتفات والإغضاء، كي لا يبطروا، وسياسة إلقاء الفساد، وإثارة الشحناء فيما بينهم، كي لا يتفقوا عليه. وعن رؤيته للاستبداد الديني، يعتقد الكواكبي أن الاستبداد السياسي يتولد في الأساس من استبداد ديني، وإن لم يكن كذلك فهما أخوان، أبوهما التغلب والأم هي الرياسة، أو هما صنوان قويان، بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان. ويتحدث الكواكبي عن الاستبداد والعلم، مشيرًا إلى أن المستبد يحاول دائمًا أن يجعل رعيته حمقاء تتخبط في ظلام الجهل، ويرصد الكواكبي أنواع العلوم التي لا يخشاها المستبد، والأنواع الأخرى التي ترتعد لها فرائصه، كالحكمة النظرية والفلسفة وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي من شأنها أن توسع العقول وتعرف الإنسان على حقوقه التي يطمع فيها دائمًا المستبد. أما عن الاستبداد والمجد فيؤكد الكواكبي أن الحرص على المجد شيء مفضل على الحياة لدى الملوك والقواد، مشيرًا إلى أن المجد لا يُنال إلا من خلال البذل في سبيل الجماعة. ثم ينتقل الكواكبي للحديث عن الاستبداد والمال، الذي يؤكد من خلاله على أن المستبد دائمًا ما يأخذ من المال درعًا واقيًا له، ووسيلة لشراء كل ما تعجز عنه صفاته. ويتحدث عن الاستبداد والإنسان، مبينًا علاقة المستبد بشعبه، وكيف يتعامل مع الإنسانية، موضحًا أن الاستبداد المشئوم دائمًا ما يحاول أن يتفنن في الظلم باستخدام البشر في سخرة أعمالهم ونهب أعمارهم وإزهاق أرواحهم، ويمتص حياتهم بغصب أموالهم. وحول الاستبداد والأخلاق يرصد الكواكبي أسباب ضياع الأخلاق في دولة المستبد، حين يؤكد أن الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، مشيرًا إلى أن ذلك كله جدير بأن يجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، لأنه لا يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد، فالمستبد يجعله حاقدًا على قومه، لأنهم عون لبلاء الاستبداد عليه. ويخلص الكواكبي إلى ضرورة التربية، فيناقش الاستعداد الفطري للإنسان للصلاح، وذلك من خلال مبحث بعنوان "الاستبداد والتربية"، ويربط الكواكبي بينهما، بحيث يكون الاستبداد والتربية عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية من ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته. ويتحدث الكواكبي عن الاستبداد والترقي الذي يربط بينهما كذلك بقوله: الحركة سنة دائبة في الخليقة بين شخوص وهبوط، فالترقي هو الحركة الحيوية، أي حركة الشخوص، ويقابله الهبوط، وهو الحركة إلى الموت أو الانحلال أو الاستحالة أو الانقلاب، ويؤكد الكواكبي أن ترقي أي أمة يعني بطبيعة الحال ترقي هيئتها الاجتماعية، مشيرًا إلى أن حالة الفرد الواحد من الأمة تؤثر في مجموع تلك الأمة. وفي النهاية يصل بنا الكواكبي إلى مرحلة الدواء، فيرصد الحقوق التي يجب على الناس البحث عنها للتخلص من الاستبداد إن وجد، ويختم بحثه بالعديد من النصائح التي يوجهها للناشئة، ثم يقول بأن الخلاصة هي: أن الراغب في نهضة قومه، عليه أن يهيئ نفسه ويزن استعداده، ثم يعزم متوكلًا على الله في خلق النجاح. الكواكبي.. شهيد الحرية ومجدد الإسلام وضع الدكتور محمد عمارة، والذي قام بنشر الأعمال الكاملة للكواكبي، كتابًا تحت عنوان "عبد الرحمن الكواكبي..شهيد الحرية ومجدد الإسلام".. تناول فيه حياة الكواكبي وشرح أهم أفكاره. ولد عبد الرحمن الكواكبي في 1854 بمدينة حلب السورية لأبوين من الأشراف، وتعود جذور عبدالرحمن بن أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي الحلبي إلى الإمام علي بن أبي طالب ونسله محمد بن الباقر بن علي زيد العابدين بن الحسين رضي الله عنهما. ولعل الكواكبي اشتهر كصحافي مصلح ومفكر أيام الدولة العثمانية وخليفتها الأشهر عبدالحميد الثاني. تلقى الكواكبي تعليمه في المدرسة الكواكبية التي كان والده مدرِّسًا فيها ومديرًا لها، وعندما بلغ الثانية والعشرين في عام 1876 عمل في جريدة فرات الرسمية، وسرعان ما تركها ليصدر أول جريدة باسم الشهباء في حلب، بالاشتراك مع السيد هاشم العطار في عام 1877، لكن الأتراك الذين كانوا يحكمون البلاد في تلك الفترة لم يتركوها لأكثر من 16 عددًا، على إثر مقالاته النارية ضد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنه لم يستسلم، فأسس جريدة الاعتدال عام 1879، وواصل فيها مقالاته النارية حتى أغلقت هي الأخرى، ومع بلوغ الصراع ذروته بين الكواكبي والسلطة العثمانية بحلب بدأت المكائد تحاك ضده، فقرر الهجرة إلى مصر ووصلها في 1899، وفيها وجد المناخ الحار والجو الصحي الذي يتيح له نشر أفكاره. ومن كتب الكواكبي الأخرى كتاب "أم القرى".. مؤتمر النهضة الإسلامية الأول، وفي هذا الكتاب سجل أفكاره النهضوية والإصلاحية، فأصبح الكتاب مرجعًا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدولة الإسلامية.. وفي كتاب "أم القرى" تخيل الكواكبي مؤتمرًا إسلاميًّا للمفكرين والمصلحين المسلمين دعا إليه قبل قرن من ظهور فكرة المؤتمرات الإسلامية السياسية الحالية، وهو يمثل المنهج الفكري والسياسي الإصلاحي الذي سجله الكواكبي عبر مقالاته الصحفية في صحف: الفرات، الشهباء، الاعتدال، التي أشرف على تحريرها. ولم يكد يستقر في القاهرة حتى استأجر الأتراك العثمانيون أحد عملائهم فحضر إلى القاهرة ودسّ السم له، فأدركته الوفاة الفجائية مساء الخميس 14 يونيو 1902، وشيعت جنازته في موكب مهيب، ودُفن بقرافة باب الوزير بسفح جبل المقطم على نفقة الخديوي عباس الثاني، وأقام له الشيخ علي يوسف، صاحب جريدة المؤيد، مأتمًا استمر ثلاثة أيام. الإسلام اليوم