"إلى الحكام .. والذين اكتشفوا أن المثقفين بلابيص.. يستحقون السّحق بالأحذية" عبارة صدّر بها الدكتور محمد عباس روايته الرائعة "الحاكم لِصًّا".. نُشرت هذ الرواية فى سنة 1989 فى أوَج سطوة الدكتاتور مبارك وجبروته.. كان الدكتور محمد عباس -بجسارته المعهودة- يوجّه خطابه فى هذه الرواية إلى مبارك شخصيا.. وإلى قُرنائه من حكام العرب.. وكان يقصد بالمثقفين الذين يستحقون السحق بالأحذية، المنافقين وجوقة الطبّالة والمضللين، الذين كانت وظيفتهم تسوّيق اللص للجماهير بأنه صاحب الضربة الأولى وبطل العبور.. والرجل الذى بدون توجيهاته وحكمته تتوقف عجلة الحياة.. وتتوقف الأرض عن دورانها.. وتضطرب الأفلاك فى مداراتها الكونية...! وكان علينا أن ننتظرعقودا من الزمن حتى تنطلق الثورات العربية لنكتشف أخيرا حجم اللصوصية الحاكمة، التى نهبت ثروة الأمة.. لتودع فى حساباتهم الخاصة وحسبات أسرهم وأتباعهم.. فى دول أجنبية.. ثم تبديد ماتبقّى منها على مغامراتهم الخارجية .. وتدعيم قوى أعداء الأمة وخدمة المصالح الصهيونة و الأمريكية.. [غاز وبترول لإسرائل بتراب الفلوس، وجدار من الصلب لحماية الكيان الصهيوني.. ليستحق لقب الحليف الاستراتيجي لأعداء الأمة.]. هل تتصور مثلا أن ليبيا كانت تصدّر مليونًا وستمائة ألف برميل من النفط يوميا..؟! ، إضرب هذا الرقم فى متوسط سعر البرميل، مضروبا فى 42 عاما، ثم تصور حجم الثروة الهائلة التى ضاعت على الأمة وعلى الشعب الليبي.. ثم تصور أن ليبيا رغم هذا الثراء الهائل، يوجد بها اليوم ما يقرب من مليونين من العاطلين.. وملايين من الفقراء الذين يعيشون على الكفاف.. الحُكّام اللصوص لم يسرقوا ثروة الشعوب فقط، ولكنهم سرقوا إرادتها وحريتها وكرامتها.. وأعاقوا نموها وتطورها وتقدمها.. وسرقوا مستقبلها أيضا.. ليس بالاستنزاف والتجريف فقط.. ولكن بالتدمير الأمنيّ والعسكري المنظم.. وباضطهاد ومطاردة المفكرين والمصلحين والعلماء المخلصين من أبناء هذه الأمة..! لقد كان هؤلاء اللصوص ولا يزالون هم أخطر على الأمة من كل أعدائها مجتمعين...! وأنتقل الآن إلى حصاد الثورات العربية فى مواجهة هؤلاء اللصوص: أمام ثورة الجماهير سقط طاغية تونس فى14يناير 2011، بعد مايقرب من ربع قرن من الحكم الاستبدادي.. وسقط طاغية مصر فى 11فبراير من العام نفسه، بعد ثلاثة عقود من من الفساد والاستبداد والتنكيل بأبناء الشعب.. و بدأت الثورة الليبية يوم 17 فبراير سنة2011، لتنتهى بمقتل القذافى يوم العشرين من أكتوبرالجارى.. وقد بلغ مجموع الشهداء والجرحى من الليبيين فى بعض التقديرات خمسين ألفا من الأنفس البريئة.. منهم ثلاثة آلاف شهيد فى مدينة واحدة هى طرابلس ... أما الثورة اليمنية فقد أشتعلت يوم الجمعة 11فبراير، الذي أطلق عليه اسم "جمعة الغضب".. وهو يوم سقوط نظام حسني مبارك في مصر.. وقد بلغ عدد القتلى مايقرب من ثلاثة آلاف يمنيّ إلى جانب عشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين.. وانطلقت الثورة السورية فى مارس2011.. وقد تميزت عمليات القمع السورية باستهداف الأطفال: حيث بدأت باعتقال تسعة أطفال كانوا يلعبون بالكتابة على بعض الجدران فى مدينة درعا فكتبوا عبارة مشهورة التقطوها من الفضائيات: "الشعب يريد إسقاط النظام" فاعتقلتهم السلطات الأمنية.. وهكذا انطلقت شرارة الثورة السورية .. لم تستهدف السلطات السورية الأطفال فى الشوارع فقط.. ولكن اخْتُطِفُوا من بيوتهم وتم اعتقالهم وتعذيبهم تعذيبا وحشيا.. والتمثيل بجثثهم كما حدث للطفل "حمزة الخطيب".. بشاعة لا يضارعها إلا بشاعة الصرب فى حرب البوسنة ضد المسلمين.. وقد بلغ عدد الشهداء حتى أكتوبر الجارى خمسة آلاف شهيد.. ومثلهم من المفقودين، بالإضافة إلى أكثر من 100 ألف معتقل ضاقت بهم السجون السورية على كثرتها، فوضعوهم في أماكن عامة مثل المدارس والمستشفيات.. تلاحظ فى كل هذه الثورات أنها بدأت بمظاهرات احتجاج سلمي.. ومطالب إصلاحية: إنسانية واجتماعية بسيطة ومحدودة.. كان يمكن الاستجابة لها من قِبل السلطات دون اللجوء إلى سفك الدماء.. ولكن وجهت هذه المطالب بالرفض، ثم القمع الأمني ثم الحرب والتدمير باستخدام الطائرات والدبابات ومدافع الهاون.. ومارست السلطات على الشعوب إجراءات قمعية تجلّت فيها الاستهانة بكرامة الناس واستباحة حياتهم وأموالهم وأعراضهم، بلا وازعٍ من ضمير أو دين أو خلق.. وخلّفت حروب الطغاة على شعوبهم مدنا مدمرة واقتصادا مدمرا وخرابا ماليا وأمنيا على أوسع نطاق... وهكذا انتهينا إلى القطيعة المطلقة بين الشعوب الثائرة وبين الحكام الذين فقدوا شرعية وجودهم وفقدوا إنسانيتهم قبل كل شيء.. ولم يفلح الحل الأمني أو العسكري فى قمع الشعوب، بل اشتعل الغضب اشتعالا، وتواصلت الثورات قوة وثباتا.. على خلاف كل التوقعات التى توهّمتها الأنظمة الدكتاتورية.. حتى وصلنا إلى مرحلة الحقيقة.. ليسقط ثالث الطغاة معمر القذافي سقوطا دمويًّا مدوِّيًا.. لقد توقعت للقذافى مثل هذا المصير فى أول مقال لى تعليقا على انطلاق الثورة الليبية.. فالقذافي نموذج للشخصية التراجيدية، لا يمكن أن تنتهى إلا نهاية دموية صاخبة.. لقد عاش على المكابرة وإنكار الواقع وتحدّى الحقائق، فى محاولة لبناء واقع من صنع خيالاته وأوهامه، ثم فرْضه على العالم الخارجي: توهّم أنه بكتابه الأخضر(الذى –على تفاهته- لم يكتب فيه حرفا) سوف يسقط النظريات السياسية الأخرى فى العالم لتتربع نظريته على القمة.. وصدّق نفسه عندما صفق له المنافقون .. وألّف له بعض المنافقين كُتبًا ورواياتٍ فظن أنه الأديب والمفكر الذى لا يُشَقُّ له غبار.. وبعثر أموال ليبيا على عدد من حكام أفريقيا و شيوخ قبائلها فاستخفّوا عقله ونصّبوه ملكًا مزيّفا على إفريقيا.. وصفقوا له فصدق القذافى أنه –بحقّ- ملك الملوك.. وليس ملك الجماهيرية العظمى فقط...! . وصنعوا له مظاهرة فى طرابلس فصوّر له الوهم أن ملايين الليبيين يؤيدونه، وأنهم مستعدون لبذل دمائهم فى سبيله.. فخرج يحييهم ويقول للثوار أنا معى الملايين فمن أنتم..؟! ماأنتم إلا جرذان وسيسحقكم ملايين الليبيين...! وظل الرجل يلهث وراء السراب وينسج واقعا زائفا من خيالاته وأوهامه حتى آخر لحظة فى حياته؛ أخرجه الثوار كالجِرْذِ من الجحر الذى اختبأ فيه هاربا من زحفهم.. فلم يصدّق ما يحدث له ونظر إليهم وهو يقول مذهولا: من أنتم...؟ ماذا تفعلون هنا..؟! لم يصدق أنه قد انتهى.. حتى بعد أن وضع يده اليمنى على خده الأيسر ليرى عليها الدم النازف من دماغه... ظل منكرا رافضا للحقيقة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.. لقد كان فرعون موسى أعقل من القذافي فقد اعترف بالحقيقة وهو مشرف على الغرق فقال: آمنت...! أما القذافى فقد كان آخر مشهد فى حياته: سَحْبُهُ من جحره وهو مذهول منكرٌ غير مصدّق لما يحدث.. وبقيت جثته ليكون عبرة لمن خلفه من الحكام الطغاة... هذه الخاتمة المأساوية لن تفلت أحدا من الطغاة المعاندين الذين لا يصدقون إلا أوهامهم وخيالاتهم المريضة، حتى تدهمهم النهاية فجأة على غير موعد.. إنها الخاتمة التى لن يفلت منها طاغية اليمن ولا طاغية سوريا.. ولا أي طاغية آخر فى بلاد العرب.. مالم يسارعوا بالتصالح مع شعوبهم ويكفّوا عن الفساد والاستبداد واحتكار السلطة والثروة من دون الشعوب.. ولكن يبدو لى أنهم من جبِلَّةٍ مستعصية على الفهم.. فلا يفهمون إلا بعد فوات الأوان.. وحتى عندما يحين الوقت ليعترفوا بأنهم فهموا إذا هم فى حقيقة الأمر لم يفهموا شيئا.. لقد خرج رائدهم الأول "زين العابدين بن على" يقول للثوار الذين يطالبون بالحرية والعدل والكرامة: "أنا فهمت الآن.. انتم تريدون السكر .. والحليب.. والخبز...!" ياله من عبقريّ فهّيم...! هذا رائدكم لم يفهم شيئا فهل تفهمون أنتم...؟! لقد تعرّض على عبد الله صالح لحادثة كادت تودى بحياته.. ونُقل إلى السعودية للعلاج.. ولكنه لم يتعظ.. بل عاد إلى اليمن أشد وحشية وضراوة وأكثر تعطشا لسفك الدماء.. لذلك يساورنى شك عظيم.. فى قدرة هؤلاء الطغاة على الفهم وعلى استخلاص العبر من تجاربهم أو من تجارب الآخرين.. إنهم يندفعون إلى مصائرهم المأساوية كما تندفع الحشرات الطائرة لتصطدم بالصاعق الكهربائي.. وتنفجر...! فانتظروا مصائركم أيها الطغاة إنا معكم منتظرون...! القاسم المشترك بين هؤلاء الطغاة أنهم لا يرون للشعوب حقا فى حكم نفسها بنفسها.. ولذلك يعملون طول حياتهم على توريث السلطة لأبنائهم.. فالشعوب فى نظرهم كما يقول الدكتور محمد عباس فى روايته: "حيوانات بشرية".. بمعنى أنه يمكن توريثها كما تُورّثُ قطعان الماشية.. وهذا ما ورد على خواطر ملك أوفريسيا؛ وكان فى السجن مثل مبارك الآن .. يقول:"... إنه يدرك أنه يمكن أن ينفد منها.. ويدرك أيضا أنه يمكن أن يعود إلى وضعه الاجتماعي.. لن يشعر بالخجل إزاء أفراد طبقته فكلهم أشد منه سوءًا.. أما الرعاع الذين يشكلون شعباً أوفريسيا فهم حيوانات بشرية لا يهمه شعورهم ولا أحاسيسهم الداخلية نحوه.. لقد كانوا يكرهونه دائما، وهم يكرهونه الآن، وسوف يكرهونه فى المستقبل، لكنه استطاع طويلا أن يسحق شخصياتهم بالمال فإن لم ينفع فبالقهر.. يمكن أن يعود هو كما كان... وستظل مشاعر الجميع كما كانت...[لا يهمّ...!]." قليل من ألأدباء استطاع أن أن يصوّر شخصية الطاغية السيكوبات بهذه المقدرة التى تذكّرنى بكتابات الأديبين الروسِيِّيَّن العملاقين "دوستويفسكى" و "ليو تولستوي".. [email protected]