ليس غريبا أن يحمل الاقتصادى الماليزى الكبير جومو كوامى سندرام، أسمى زعيمى الاستقلال الوطنى الأفريقيين، جومو كينياتا وكوامى نكروما، حيث تسلط كتاباته البارزة دائما الضوء على كيفية نجاح الدول النامية فى خوض معركتها الاقتصادية لتحقيق التنمية.. ومع سقوط الكثير من المبادئ المنادية بالتحرر الاقتصادى المنفلت على وقع أزمة مالية بدأت فى قلعة وول ستريت المالية، كان يجب أن نسأل السكرتير العام المساعد للتنمية الاقتصادية بالأمم المتحدة عن الطريق الجديد أمام مصر والاقتصادات الناشئة لتحقيق التنمية، بعد سقوط فلسفة توافق واشنطن ● هل تعتقد أن فلسفة توافق واشنطن التحررية التى أثرت على صناع السياسات الاقتصادية فى مصر والعالم النامى خلال العقود الماضية قد سقطت مع الأزمة المالية العالمية الحالية؟ لكى أكون دقيقا أعتقد أن توافق واشنطن فقد مصداقيته قبل الأزمة الحالية، بسبب ظهور الآثار السلبية لسياساته فى العديد من الدول النامية، ففى أمريكا اللاتينية قيل لهم إن تلك السياسات ستساعد على دفع نموهم الاقتصادى، ولكنهم واجهوا نحو عقد ونصف من النمو البطىء، وفى أفريقيا حدث ذلك لنحو خمسة وعشرين عاما.
ونفس الحال فى العالم العربى، فلم تظهر الآثار الايجابية المنتظرة لهذه السياسات على الصناعة أو الزراعة، بل إن أفريقيا تحولت من مصدر صافٍ للغذاء فى الثمانينيات إلى مستورد صافى له فى العقد الماضى، وازداد عدد الجوعى بالرغم من أن بيانات البنك الدولى تقول إن الفقر يتراجع، وعموما لقد كانت هناك بعض الأطروحات لتعديل فكر توافق واشنطن فى الفترة الأخيرة، ولكن الأفكار لا تموت بسهولة.
● ما هو السبب الرئيسى وراء فشل تلك الفلسفة الاقتصادية برأيك؟ هناك العديد من أوجه الفشل التى ظهرت مع تطبيق تلك السياسات، فقد قيل إن تحرير السوق سيحقق الكفاءة الاقتصادية وهذا لم يحدث، وعلى الصعيد المالى خرجت رءوس الأموال من الدول النامية إلى الدول الغنية مع تطبيق سياسات العولمة، أما سياسة الخصخصة فقد اخفقت بشكل كامل حيث عادت بالفائدة على نخبة قوية سياسيا، وأصول الدولة تم تقييمها بقيمة منخفضة.
كما أنه من ناحية أخرى، تراجعت الحماية الاجتماعية فى العديد من القطاعات، والمشكلة أننا الآن لدينا أزمة مالية عالمية وتوقعات باستمرار التباطو الاقتصادى لفترة طويلة، وهو ما قد يؤثر على الدول النامية، فهذه الدول اتجهت فى العقود الماضية إلى التركيز على الإنتاج للتصدير، والآن يقال لها إنها يجب أن تقلل من صادراتها من أجل مساعدة الاقتصاديات المتقدمة على الإنتاج والنمو، بل إن تلك الدول المتقدمة تتجه إلى فرض بعض أشكال الحماية التجارية، وهو ما يزيد الموقف تعقيدا.
● هل تعتقد أن الأزمة المالية الحالية ستتسبب فى تغييرات هيكلية فى الاقتصاديات الغربية؟ هناك مشكلة كبيرة على شاطئ المحيط الأطلسى، فمن ناحية لدينا أزمة فى منطقة اليورو، وأوروبا تحاول أن تساعد الاقتصاديات المتأزمة هناك ولكن بأقل تكلفة ممكنة، ومن الناحية الأخرى يرفض البرلمان فى الولاياتالمتحدة اعتماد سياسات تساعد على الخروج من الأزمة والتى ترتبط بشكل أساسى بفرض ضرائب أكبر على الأغنياء.. وبصفة عامة تلك العوامل تصعب من اتخاذ خطوات لتحقيق التعافى القوى المستدام.
● هل من الممكن أن تساهم الاحتجاجات الشعبية الحالية فى العديد من الدول الغربية فى تغيير الرؤية الاقتصادية لصناع القرار؟ لا أعتقد أن الاحتجاجات الحالية تجعلنا نتصور أن هناك ربيعا أوروبيا بمفهوم الربيع العربى، باستثناء اليونان التى تخرج فيها حشود كبيرة بالفعل، والمشاركون فى الاحتجاجات الأمريكية ما زالوا قليلين، فهم أقل من مؤيدى حزب الشاى الذى يساند السياسات المعارضة لمطالب متظاهرى وول ستريت، أعتقد أن أحد أبرز الخطوات الفعالة التى ستتم فى الفترة المقبلة هى زيادة موارد صندوق النقد لمساندة الاقتصاديات الأوروبية، وذلك بالاعتماد على دول مثل الصين التى أصبحت ثانى أكبر اقتصاد فى العالم وما تزال غير ممثلة فى الصندوق بما يوازى وزنها الاقتصادى الحقيقى، وكذلك بالاعتماد على دول أخرى مثل السعودية، ولكن مثل تلك الإجراءات ستساهم فى احتواء أكثر أوجه الأزمة قابلية للانفجار ولكن ليس احتواء الأزمة كلها.
● كيف ترى مستقبل الاقتصادات الأوروبية والأمريكية بعد عدة سنوات على المدى المتوسط؟ أنا قلق جدا، فهم يحاولون أن يحلوا مشكلة الديون السيادية ولكن ذلك لن يجنبهم من الدخول فى موجة طويلة من التباطؤ الاقتصادى، وهذا قد يضعنا فى حالة مشابهة للوضع فى أزمة الثلاثينيات، وقد تنشىء عن ذلك اتجاهات سياسية جديدة، كزيادة النشاط العسكرى، مثل الدور الذى رأيناه لحلف الناتو فى ليبيا.. والمفارقة أنه سيكون صعبا أن نكرر الاعتماد على «العسكرة الكينزية» التى ساهمت فى تنشيط الاقتصاد، كما حدث فى الحرب العالمية الثانية، ففى هذا الوقت ذهب الرجال فى أمريكا للحرب، واتجهت النساء لسوق العمل، مما ساعد على تحقيق التشغيل الكامل، ولكن الآن نمط الحرب اختلف حيث يتم الاعتماد على القذف بالطائرات.
● الحديث عن التجربة الكينزية فى منتصف القرن الماضى يتم استدعاؤه أيضا فى دول نامية مثل مصر الآن، فبعد الثورة يدور الجدل حول الاعتماد على الدولة أكثر أم على السوق الحرة، ما هو رأيك فى هذا الخلاف؟ اعتقد أن دولا نامية مثل مصر تحتاج إلى اتباع سياسات مختلفة ومتكاملة فى مجال السياسات المالية والتجارية وخلق الوظائف وإصلاح القطاع العام وليس فقط الاعتماد على خصخصته.
● ولكن كيف يتم ذلك عن طريق اقتصاد السوق أم تدخل الدولة؟ ليست القضية سوقا أو دولة، يجب أن تكون هناك سياسات أكثر ابتكارية، فمن ناحية علينا أن نتعلم من دروس الماضى وأن نصلح القطاع العام ونجعله أكثر قابلية للمحاسبة، ويجب أيضا أن نرفع من الأجور المتدنية لبعض العاملين فيه قبل أن نحاسبهم على الفساد، ومن جهة أخرى، فهناك دور للسوق الحرة ولكن يجب أن يكون تابعا للسياسات التى تصب فى مصلحة احتياجات الناس، فمع كل نشاط اقتصادى تنشئ فقاعات سعرية، كالأسعار المبالغ فيها للاصول والأسهم، يجب أن يكون دور الدولة هو عدم السماح لتلك الفقاعات بالنمو.
● هل من الممكن أن تعطينا مثالا على السياسات التى توجه القطاع الخاص للتنمية الاجتماعية؟ فى مجال السياسات النقدية مثلا، تستطيع أن تخفض قيمة عملتك المحلية مما يساعد على تقليل تكلفة الصادرات ويحفز على تخفيض الواردات لأن أسعارها ترتفع بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية، هذه السياسة قد لا تعجب من يرسلون أبناءهم للعيش فى الخارج أو من يريدون استيراد سلع كالسيارات ولكنها سياسة توافق المصلحة العامة.
هل تعتقد أن الحكومات الديمقراطية هى الأقدر سياسيا على تطبيق هذه السياسات؟ هذا الفكر يحتاج لحكومة قوية وشرعية وتخضع للمحاسبة من شعبها، ويحتاج أيضا لدرجة عالية من الوعى الاقتصادى الشعبى لمساندة هذه السياسات.
● بعد الثورة حاولت الحكومة الانتقالية زيادة الضرائب للانفاق على التنمية إلا أن قطاع واسع من مجتمع الأعمال قاوم هذه السياسات بحجة أنها طاردة للاستثمار.. فما رأيك فى ذلك؟ هذه وجهة نظر غير صحيحة، انظر لأكثر الدول الناجحة اقتصاديا فى الغرب، المانيا، هل تعلم ان الضرائب هناك من أعلى الشرائح الضريبية فى العالم بنسبة 53%.
● فى مصر نتطلع إلى خلق قاعدة صناعية مثل التجربة الآسيوية، فما هو السبيل لتحقيق ذلك؟ هناك نمطان للنهضة الصناعة فى جنوب شرق آسيا، أما بالاعتماد بدرجة كبيرة على الصناعة الوطنية، أو على الاستثمار الأجنبى، واعتقد أن فى حالة النموذج الثانية كانت سنغافورة هى الدولة الوحيدة الناجحة جدا فى تحقيق ذلك.
والمشكلة بصفة عامة أن تحقيق النهضة الصناعية يحتاج إلى تقديم الحوافز لدخول الاستثمار فى هذا المجال، ولكن إذا نظرت إلى الأسواق الناشئة ستجد الاستثمارات المحفزة موجودة فى قطاعات مثل القطاع العقارى أو السياحى، لذا فهناك حاجة لحزمة حوافز لجذب الاستثمارات للصناعات كالحوافز التصديرية المشروطة، التى اعتمدت عليها كوريا فى نهضتها الصناعية.
● هناك من يقول إن الصناعة محكومة الآن باحتكارات دولية وعلى الدول النامية مثل مصر التركيز على قطاعات اقتصادية أخرى تقدر على المنافسة فيها؟ ليس صحيحا، فالصين اخترقت تقريبا كل تلك الاحتكارات من خلال تحسين جودة منتجاتها وتقليل تكلفتها، وهى لا تنافس فقط فى التكنولوجيات البسيطة ولكن فى التكنولوجيات المعقدة أيضا.
● هل هذا يعنى أننا يجب أن نتبع اقتصادا موجها مثل الصين حتى نحقق النهضة الصناعية؟ الصين يحكمها حزب شيوعى ولكنها اقتصاد رأسمالى، الفرق بين أمريكا والصين أن مليارديرات أمريكا يعملون فى القطاع العقارى والمالى والتأمينى، بينما يقوم مليارديرات الصين بإنتاج السلع.
● كيف نحفز الاقتصاد على التصدير مع التوقعات بتباطؤ النمو الاقتصادى عالميا فى الفترة المقبلة؟ هذه مشكلة فعلا، واعتقد أنه يجب أن يتوجه الإنتاج بدرجة كبيرة للسوق المحلية فى الفترة المقبلة، أود أن أؤكد أيضا أننى لاحظت من خلال زيارتى لمصر بعد الثورة أن هناك حاجة لتفعيل نقاش أكبر حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى تحتاجها البلاد، وصياغة رؤية اقتصادية، فالذين ماتوا فى الثورة بالتأكيد ضحوا بحياتهم من أجل العيش وليس من أجل مقولات فلسفية.