الكتابة عن ماريو برخاس يوسا لا يمكن أن تختصرها زاوية واحدة ولو كانت هذه الزاوية بأهمية حصوله على جائزة نوبل للآداب، فتجربة هذا الكاتب البيروفى حافلة فى شتى دروبها بداية من الأدب وحتى السياسة، التى وصل إلى أعلى درجات انخراطه بها بترشيحه لنفسه عام 1990 رئيسا لبيرو، مع يمين الوسط الديمقراطى وخسر لمصلحة البرتو فوجيمورى، الذى اضطر فى نهاية الأمر للفرار من البلاد وأدين بعد ذلك بعدة جرائم. جولات يوسا السياسية لم تقتصر على تجربة الترشيح على أعلى المناصب السياسية فى بيرو، وإنما المتتبع لتاريخه يجد صولات وجولات بين أطياف السياسة المختلفة، ففى بداية حياته كان من أشد أنصار الحركة الاشتراكية، ومن مؤيدى الثورة الكوبية، لكنه تخلى فى السبعينيات عن هذه المبادئ وندد بنظام فيدل كاسترو الشيوعى، وأيّد بعدها الليبرالية الجديدة ونظام السوق الحرة، وأثارت هذه التحوّلات غضب كثير من المعجبين بأعماله، علاوة على أنه معروف بمواقفه المتعاطفة مع القضية الفلسطينية فسبق أن زار القدسالشرقيةالمحتلة ورام الله وغزة، وكذلك فإن له مواقف سياسية دافع عنها كثيرا على مدى تاريخه الأدبى العريض منذ روايته الأولى «المدينة والكلاب» 1962، التى تعد أشهر رواياته التى تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات، وكذلك روايته «زمن البطل» 1966، التى تعد من أجرأ الأعمال الأدبية التى عرفها أدب أمريكا اللاتينية، ودارت حول كيفية تجنيد بعض الضباط للعمل فى المؤسسات الاستعمارية السرية، للقيام بانقلابات عسكرية لمصلحة القوى العظمى، وكان يقر بأن الرؤساء هم أول من يخونون البلد كلما استشرى الفساد الإدارى فى المرافق الحكومية، وكذلك رواية «حديث فى الكاتدرائية» 1975 التى أثارت جدلا شديدا لاختراقها أسوار منطقة شائكة، وهى انتقاد بعض رجال الدين، الذين لا يكترثون إلا بمصالحهم الخاصة باسم الكنيسة. فى أحد لقاءاته الصحفية تحدث يوسا بعشق عما تمثله له الكتابة الأدبية، ومحاربته للحظات التوقف، التى ربما تنتابه بعد انتهائه من أحد أعماله، فقال: «أكره هذا الإحساس بالفراغ الذى ينتابنى بعد الانتهاء من كتابة أحد مؤلفاتى، خاصة أن المشروع الواحد قد يستغرق منى سنوات، لذلك لمواكبة واستئناف العمل لا أتوقف أبدا، وأقفز إلى مشروعى الجديد، فأنا لا أحب الاستسلام لشعورى بالنوستالجيا تجاه أعمالى القديمة»، وعندما سأله الصحفى حول ما يمثله له المستقبل أجاب: «أتمنى أن أظل أكتب للنهاية، وأن أستمتع بهذا الفعل، فأنا لم أشعر قط بذلك الفراغ، الذى يصيب بعض الكتاب بالشلل، فأنا لدى مشروعات ربما تزيد عن الوقت المتبقى لى فى حياتى»، تُرجمت أعمال الأديب البيروفى إلى أكثر من 20 لغة عالمية، كما ترجمت العديد من أعماله إلى العربية، قام بترجمة معظمها صالح علمانى، ومنها «البيت الأخضر»، و«بانتاليون والزائرات»، و«قصة مايتا»، و«ليتوما فى جبال الأنديز»، و«امتداح الخالة»، و«دفاتر دون ريغوبيرتو» و«حفلة التيس»، و«شيطنات الطفلة الخبيثة»، وأصدر المشروع القومى للترجمة له ثلاثة كتب هى «الكاتب وواقعه» و«الجراء» و«الرؤساء». ولد يوسا فى 28 مارس عام 1936 فى مدينة أريكويبا فى بيرو، نشأ مع والدته وجده فى مدينة كوشاباما فى بوليفيا قبل أن يعود إلى وطنه عام 1946، وعمل صحفيا فى بيرو وفى باريس قبل أن يتفرغ للتأليف، وعاش فى مدريد فى الفترة من عام 1958 حتى عام 1974، حيث حصل على درجة الدكتوراه، وتزوج يوسا فى سن 18 عاما من قريبة له وعاش معها تسعة أعوام، وتناول هذه العلاقة فيما بعد فى روايته «العمة جوليا وكاتب السيناريو»، ونال الجنسية الإسبانية عام 1993، وحصل على عدة جوائز على رأسها جائزة ثربانتس الأسبانية الشهيرة عام 1994، وجائزة القدس 1995، ولا يمكن الحديث عن يوسا دون التوقف عند تجربته المسرحية، التى شغلته واستغرقته خاصة خلال السنوات الأخيرة، من بينها «حقيقة الأكاذيب» والأوديسا وبنيلوبى، وكذلك تجرته الأهم، التى استوحاها من رائعة «ألف ليلة وليلة»، التى عبر فى أكثر من مرة عن شدة ولعه بها، معتبرا أنه لم يوجد فى تاريخ الأدب اسما أكثر إشراقا من شهرزاد أو شهريار، وقام الأديب البروفى الشهير بصياغة رؤية مستوحاة من هذه الملحمة التراثية وقدمها من خلال 7 عروض فى أسبانيا، ويرى يوسا أن أهم ما تحمله «ألف ليلة وليلة» من معانٍ يكمن فى التوظيف الإنسانى للخيال فضلا عن أن جاذبيتها، التى جعلتها تترجم إلى معظم لغات العالم وتظل حية وباقية عبر العصور، «وهو ما لم يتوافر لأى عمل أدبى آخر فى التاريخ حتى الإنجيل أو شكسبير»، حسب قوله، وأكد أن الهدف الأول من تقديمه لها هو الاحتفاء بها باعتباره أدبا رائدا فى ابتكار القصص من أجل تحقيق السعادة، مشيرا إلى أن هذه تعد الرسالة الحقيقية للأدب، التى تكمن فى المقاومة الدائمة للحزن والتعاسة والإحباط. بالإضافة إلى عوالم الأدب التى خاضها يوسا بجسارة، فإن له مؤلفات أخرى غير روائية على رأسها سيرته الذاتية «سمكة فى الماء» 1993، وكذلك أعمال أخرى تتسم بروح البحث وتحدث فيها عن أدباء آخرين وتأثير كتاباتهم على أسلوبه الأدبى، على رأسهم جون بول سارتر، وأرنست هيمنجواى، وألبرت كامو، وجابريل جارسيا ماركيز، هذا الأخير الذى كانت تربطه به صداقة وطيدة على المستوى الشخصى ولكنها تبددت مع السنين، وإن رفض كلاهما التصريح بالسبب الحقيقى وراء هذا الجفاء تاركين الأمر للمؤرخين، الذين سيقومون برواية هذه العلاقة بين أديبين بقامة ماركيز ويوسا.