نقابة الأطباء تكرم رموز المهنة والنقباء السابقين في احتفالية يوم الطبيب    استخراج 1023 شهادة بيانات للتصالحات بمراكز الشرقية    مواصفات وأسعار سيات إبيزا 2024 بعد انخفاضها 100 ألف جنيه    بعثة البنك الدولي تزور محطات رصد جودة الهواء ومركز الحد من المخاطر    محافظ شمال سيناء يستقبل نائبة رئيس الوزراء ووزيرة خارجية سلوفينيا    وزير التموين: مصر قدمت 80 ٪ من إجمالي الدعم المقدم لقطاع غزة    آخرها هجوم على الاونروا بالقدس.. حرب الاحتلال على منظمات الإغاثة بفلسطين    الدوري الإنجليزي، مانشستر سيتي يتقدم على فولهام بالشوط الأول    أخبار الأهلي : طلبات مفاجئه للشيبي للتنازل عن قضية الشحات    تفاصيل وفاة معلم اللغة العربية بمدرسة التربية الفكرية في الأقصر    مغني المهرجانات «عنبة» ينجو من الموت في حادث سير    وزير الصحة باحتفالية يوم الطبيب: الأطباء في عين وقلب الرئيس السيسي    تشغيل قسم الأطفال بمركز الأورام الجديد في كفر الشيخ (صور)    رئيس الوزراء: إطلاق أول خط لإنتاج السيارات في مصر العام المقبل    «الأرصاد» تكشف حقيقة وصول عاصفة بورسعيد الرملية إلى سماء القاهرة    افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف بجامعة الإسكندرية    نتائج منافسات الرجال في اليوم الثاني من بطولة العالم للإسكواش 2024    الدوماني يعلن تشكيل المنصورة أمام سبورتنج    عقوبة استخدام الموبايل.. تفاصيل استعدادات جامعة عين شمس لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    البابا تواضروس يدشن كنيسة "العذراء" بالرحاب    محافظ أسوان: توريد 137 ألف طن قمح من النسبة المستهدفة بمعدل 37.5%    الإمارات تهاجم نتنياهو: لا يتمتع بأي صفة شرعية ولن نشارك بمخطط للمحتل في غزة    بعد ثبوت هلال ذي القعدة.. موعد بداية أطول إجازة للموظفين بمناسبة عيد الأضحى    ضبط المتهمة بالنصب والاحتيال على المواطنين في سوهاج    رئيس حزب الاتحاد: مصر صمام الأمان للقضية الفلسطينية    تسلل شخص لمتحف الشمع في لندن ووضع مجسم طفل على جاستن بيبر (صور)    اللجنة العليا لمهرجان المسرح المصري تجتمع لمناقشة تفاصيل الدورة ال17    باسم سمرة يكشف سر إيفيهات «يلا بينا» و«باي من غير سلام» في «العتاولة»    اجتماع لغرفة الصناعات الهندسية يكشف توافر 35% من مستلزمات صناعات الكراكات بمصر    التنمية المحلية: استرداد 2.3 مليون متر مربع بعد إزالة 10.8 ألف مبنى مخالف خلال المراحل الثلاثة من الموجة ال22    استشاري تغذية علاجية يوضح علاقة التوتر بالوزن (فيديو)    إحالة العاملين بمركز طب الأسرة بقرية الروافع بسوهاج إلى التحقيق    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك    «صفاقة لا حدود لها».. يوسف زيدان عن أنباء غلق مؤسسة تكوين: لا تنوي الدخول في مهاترات    وزيرة التضامن تشهد عرض المدرسة العربية للسينما والتليفزيون فيلم «نور عيني»    تشكيل مانشستر سيتي – تغيير وحيد في مواجهة فولام    التنمية المحلية: تنفيذ 5 دورات تدريبية بمركز سقارة لرفع كفاءة 159 من العاملين بالمحليات    وزيرة التضامن: 171 مشرفًا لحج الجمعيات.. «استخدام التكنولوجيا والرقمنة»    جدول ترتيب الدوري الإنجليزي قبل مباريات اليوم.. فرصة مانشستر سيتي الذهبية للصدارة    وزير الأوقاف: هدفنا بناء جيل جديد من الأئمة المثقفين أكثر وعيًا بقضايا العصر    معسكر مغلق لمنتخب الشاطئية استعدادًا لكأس الأمم الأفريقية    تداول أسئلة امتحان الكيمياء للصف الأول الثانوي الخاصة ب3 إدارات في محافظة الدقهلية    بعد وصفه ل«الموظفين» ب«لعنة مصر».. كيف رد مستخدمي «السوشيال ميديا» على عمرو أديب؟    بسبب «البدايات».. بسمة بوسيل ترند «جوجل» بعد مفاجأة تامر حسني .. ما القصة؟    رئيس هيئة الرعاية الصحية يتفقد المستشفيات والوحدات الصحية بالأقصر    جهاز المنصورة الجديدة: بيع 7 محال تجارية بجلسة مزاد علني    توريد 164 ألفا و870 طن قمح بكفر الشيخ حتى الآن    شروط وأحكام حج الغير وفقًا لدار الإفتاء المصرية    مصرع مهندس في حادث تصادم مروع على كورنيش النيل ببني سويف    أحمد حسن دروجبا: "لا يمكن أن تكون أسطورة من مباراة أو اثنين.. وهذا رأيي في شيكابالا"    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    كرم جبر: أمريكا دولة متخبطة ولم تذرف دمعة واحدة للمذابح التي يقوم بها نتنياهو    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    عمرو دياب يحيى حفلا غنائيا فى بيروت 15 يونيو    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماريو فارغاس الحائز بنوبل .. من الواقعية السحرية إلى سحر الواقع
نشر في نقطة ضوء يوم 08 - 10 - 2010

صحيح أن اسمه ورد في السنوات السابقة كواحد من المرشحين المحتملين للفوز بجائزة نوبل للآداب، إلا أن قطار اللجنة الملكية السويدية، كان يفوته في كلّ عام، لدرجة أن الأمر انتهى بالجميع لأن يعتقدوا أن ماريو بارغاس يوسا، الكاتب البيروفي، سيبقى واقفا على رصيف المحطة ولن يفوز بها، وبخاصة أنه على درجة كبيرة من الشهرة، كما أنه حصل على عدد كبير من الجوائز الأدبية المهمة، في شتّى بقاع العالم. ربما لذلك، لم يتناول اسمه أحد، هذه السنة، في سلسلة التكهنات والترشيحات التي تسبق الإعلان عن الجائزة. ومن هنا أيضا، تثبت اللجنة الملكية، أنها «مخلصة لمبادئها» بحيث إنها تفاجئ الجميع يوم الاختيار، لتعلن اسما، لا يفكر به أحد.
الأكاديمية السويدية اختارت أمس يوسا، ليكون صاحب «نوبل للآداب» لهذا العام، وجاء في حيثيات بيان الجائزة أنها اختارته «لبراعته في رسمه المفصل للصراعات على السلطة وتصوير المقاومة والثورة والهزيمة داخل الفرد». وقال بيتر أنجلد الأمين العام الدائم للجنة نوبل، في تصريح لوكالة رويترز «إنه كاتب متميز وأحد أعظم الأدباء في الدول الناطقة بالاسبانية»، وأضاف «إنه من الذين كانوا وراء ازدهار الأدب في أميركا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات وواصل العمل والانتشار»، وفي اختيارها تعطي اللجنة الجائزة لأول كاتب من أميركا اللاتينية منذ العام 1990، أي منذ أن اختارت الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث. ويمكننا أن نضيف أن غالبية أعماله موجودة بالعربية منذ سنين عديدة، ويعود الفضل الأبرز فيها لصالح علماني (بالإضافة إلى آخرين، لا تحضرني أسماؤهم كلهم)، الذي يستحق الشكر، على عمله في نقل قسم كبير من أدباء أميركا اللاتينية إلى العربية.
ربما في نهاية الأمر، تأتي الجائزة لتكافئ مسارا متشعبا، وحياة عرفت الكثير من التعرجات والانشطارات، كما الخيبات والفرح، فاسم ماريو فارغاس يوسا (مواليد العام 1936 في مدينة أريكيبا في البيرو)، اسم يحمل الكثير من التفاصيل: صحافي وروائي بيروفي، ترشح للرئاسة في بلاده العام 1990. مدافع لا يتعب عن حقوق الإنسان وعن قيم الجمهورية. كلّ ذلك وبالتأكيد ثمة أشياء أخرى أيضا جعل منه واحدا من أفضل وأشهر كتّاب أميركا اللاتينية، بالأحرى واحدا من أهم كتّاب العالم اليوم. فمنذ أن أصدر روايته «الكلاب والمدينة» في ستينيات القرن المنصرم، والتي كانت السبب في شهرته بين النقاد والقراء، وهو لم يتوقف عن تقديم نصوص تجعلنا نكتشف «سحر» أميركا اللاتينية (لكن بعيدا عن مفهوم الواقعية السحرية الذي انتشر مع غابرييل غارسيا ماركيز، الذي سبقه إلى هذه الجائزة العام 1982) كما مشكلاتها ليتقاسم مع القراء أعباءها وبخاصة تلك التي يصارعها شعبه في البيرو.
لقد انحاز ماريو بارغاس يوسا منذ البداية إلى المتخيل وإلى حرية العبارة والى الحق في إعادة إبداع العالم من خلال «الحكاية الخرافية»، مهما تطلب الأمر في أن يظهر ذلك، أمرا شاذا أو غريبا. هكذا هي الحال في غالبية كتبه، أكان ذلك في «بانتالئون والزائرات» (وهو كتاب جميع الاشراقات الهيسبانية) أم في «مديح زوجة الأب» (وهو كتاب جميع العقد الفرويدية).
بيد أنه، مع ذلك كله، ظهر للعيان، فجأة، جانب من شخصية يوسا، كان لا يزال مختفيا بين ظلاله العديدة: فهذا «الطفل الفاسد» و«الكاتب الشهير»، انحنى في لحظات كثيرة، في حياته، فوق مصير شعبه. انحنى فوق هذه «البيرو» التي يبدو من الصعب جدا تحديد هويتها. فحاضرها ليس بحاضر مجيد، كما أن مستقبلها، ليس بذلك المستقبل المليء باليقين.
كلّ هذه الأسئلة، تظهر، في أدب يوسا، ذي الاتساع الكبير والمتجذر بشكل جميل، في غالبية أعماله. ثمة كتاب آخرون وفي مناخات وفضاءات مختلفة استطاعوا أن يمدحوا مزايا الخلاسية. أما في البيرو، فنجد الإتنيات تتصارع في ظلّ كلّ غياب لأي توازن محتمل. قد يقول قائل ذو رؤية انه ينبغي إنقاذ هذا البلد. هذا صحيح، بيد أن الأمر، ليس سوى وهم في المحصلة النهائية. من هنا وجدنا يوسا صاحب الأفكار الكريمة أي هذا الرجل اليساري، قد انخرط في السباق إلى سدة رئاسة الجمهورية هناك. انه متحدث لبق، يعرف كيف يأسر المستمعين. في البداية، انتقل من نجاح إلى نجاح. لقد تناسى أنه بالنسبة إلى الفقراء ذو بشرة بيضاء ومثقف وغني. إلا أنه شيئا فشيئا بدأت يقينياته السياسية بالتمفصل، إذ بدا يمينياً، وبدأت الحشود تحذر منه. حين فشل في الانتخابات الرئاسية، عرف يومها ذلك الذل الكبير، فالسلطة ذهبت إلى شخص بيروفي ذي أصول يابانية. في واقع الأمر، نجد أن هذا التحول من «اليسار» إلى «اليمين» (إذا جاز التعبير)، ليس وليد الحملة الانتخابية، للوصول إلى رئاسة الجمهورية. لقد بدأ هذا التحول، قبل فترة طويلة.
ففي بداية حياته، عمل يوسا صحافياً، وكان، مثله، مثل غالبية مثقفي أميركا اللاتينية، معجبا بالشيوعية، ومرتبطا ارتباطا وثيقا بفيديل كاسترو. ففي ظل تأثير أفكار جان بول سارتر عليه، اعتقد بوجود التزام الكاتب سياسيا. من هنا، جاءت رواياته الأولى، مثل «المدينة والكلاب» (1963) وهي كانت كتابات نقدية قاسية للدكتاتورية العسكرية التي كانت تعيث فسادا، في تلك الحقبة، في البيرو، وفي عدد من بلدان أميركا اللاتينية. أما «البيت الأخضر» التي تحتوي على مجموعة من القصص المتشابكة، بطلتها بونيفيشيا، التي نشأت عند مجموعة من الراهبات التبشيريات بعد أن التقطنها من بين الهنود القاطنين في الغابة فقد وضعت يوسا في مصاف كبار الكتّاب. فهي، بعيد صدورها في العام 1966، حازت جائزة النقد، كما حصلت في العام 1967 على جائزة «روسو غالييغو» الدولية للآداب.
لقد رغب يوسا، بصفته روائيا، أن يشهد على حقيقة أليمة: حقيقة بلاده التي يمزقها العنف والتعصب واللاتسامح. فبالنسبة إليه، من المهم جدا أن يظهر الكاتب «أهمية الحرية للمجتمع، ولكل كائن بمفرده، في الوقت عينه». من هنا، وبحسب ما يقول، جاءه الوعي الذي جعله يرى إلى الاضطهاد الذي مارسه كاسترو والشيوعيون. فتحالف مع القوى الديموقراطية والليبرالية، لدرجة أن الشتائم بدأت تصل إليه، من كل حدب وصوب، في القارة الأميركية الجنوبية.
ارتداد المثقف اليساري، الشيوعي هذا، على نفسه وانخراطه مع اليمين الليبرالي، نجده في قلب روايته «قصة مايتا» (1984) التي أثارت جدلاً حاداً، ليس في أميركا الجنوبية وحسب، بل في العالم بأسره، بسبب التحولات الفكرية التي أصابت الكاتب.
يروي بارغاس يوسا، في كتابه هذا، سيرة مايتا، وهو شاب، بدأ حياته بالتضامن مع الفقراء، لدرجة أنه كان يصوم أياما، لأن ثمة أناسا لا يستطيعون تناول الطعام. وبعد تعرفه إلى أحد التروتسكيين، يبدأ مايتا، باكتساب الطابع السياسي اليساري، فينضم إلى «حزب العمل الثوري» الذي سرعان ما ينقسم إلى حزبين، بالرغم من قلة أعضائه. ما بين «حزب العمل الثوري» و«حزب العمل الثوري التروتسكي»، يحاول مايتا الاتصال بالحزب الشيوعي، فيطرد من الحزب، بيد أنه، بالرغم من ذلك، يشارك رفاقه بالتخطيط للقيام بتمرد مسلح، عبر مهاجمة سجن «خاوخا». تفشل المحاولة، ويسجن «الثوار».
بيد أن يوسا، بالرغم من انقلاباته الفكرية، بقي لفترة طويلة حذرا من السياسة، لأنها «مصدر العنف والاعتباطية والتعسف». لذلك، لم يتخل عن دوره ككاتب وهو دور يتلخص في «البقاء بعيدا عن السلطة كي يستطيع المرء إفشاء تعسفها». ما دفعه إلى قول ذلك، كانت ضخامة الأزمة البيروفية. فشكّل مع عدد من الشخصيات في العام 1987، تجمع «ليبرتاد»، وهو تجمع للقوى الديموقراطية المعادية للماركسية، تعمل لمصلحة «التحرر الاقتصادي والسياسي». لكنه، «بالرغم عنه»، أصبح «زعيما سياسيا وقع في فخ النجاح غير المتوقع للحركة». وفي إطار هذه الأجواء، لم يستطع إلا أن يتحمّل المسؤولية. من هنا، عدم قدرته على القول «وداعا إنني أعود إلى طاولتي لأكتب». فكانت تجربة الانتخابات الرئاسية.
هذه التجربة، يدخلنا إلى ثنايا تفاصيلها مع كتاب «السمكة في الماء». في واقع الأمر، يتألف الكتاب هذا، من «قصتين» متقاطعتين. الأولى، تروي طفولة الكاتب وشبابه، أما الثانية، فتروي مسيرة حملته الانتخابية التي استمرت 3 سنوات وانتهت «بالانزياح»، أي بفشل المرشح ماريو بارغاس يوسا، في 10 حزيران 1990. ثمة صدى في نصّي هذا الكتاب، يجاوب بعضهما بعضاً. صحيح أنهما لا يملكان الهيكل ذاته ولا اللون نفسه، ولكنّ ثمة خيطاً خفياً يجمعهما.
في العام 1988، وفي قلب انشغالاته السياسية، فاجأ يوسا، الجميع، بإصداره رواية، تبتعد كثيرا عن اهتمامه في تلك الحقبة. جاءت رواية «مديح زوجة الأب» لتشكل حكاية ايروسية كاملة، أو بالأحرى، حكاية ماجنة. كأننا، في كتابه هذا، نجد أنفسنا أمام أناتول فرانس الذي جاء لينزه شهيته في حمّى أميركا اللاتينية، أكثر من كوننا أمام كاتب بيروفي معاصر. إذ ان «مديح زوجة الأب»، رواية، تسير عبر الاستيهامات والتعاقدات، أكثر من كونها تسير من خلال التهتك والمباهج. إنها احتفاء بالجسد الذي يرسخ بشكل خبيث لاواقعية الجسد نفسه. إذ لربما كانت الإيروسية ومن خلال طبيعتها الخاصة قد تفتحت أو لنقل قد تشكلت، على هيئة سراب من أجل عطشنا كراشدين، مثلما تشكلت في ما مضى، الحكايات الخرافية من أجل احتدامات الأطفال الصغار.
بيد أن يوسا لم يكتف بهذه الرواية، إذا أصدر لها «تتمة» بعنوان «دفاتر دون ريغوبرتو»، وهي تنتمي إلى الشريان ذاته، الذي تنتمي إليه: «مديح زوجة الأب» (أو «امتداح الخالة»)، التي نكتشف فيها الحبّ المحرم لشاب يدعى فوفونا، والذي يكنه لزوجة أبيه، دونا لوكريثيا. حين صدرت هذه الرواية، قال الكاتب في حديث صحافي إن هذه «التكملة» لم تكن معدة سلفا: «لم أفكر أبدا حين بدأت الكتابة، في إعادة استعمال الشخصيات نفسها. بيد أنه ذات يوم، جاءتني صورة ما، وهي صورة الصغير فوفونا، قارعاً على باب زوجة أبيه دونا لوكريثيا، بعد عام من انفصالهما. بدأت بتخيل ما قد يكون قد حصل بينهما. فوجدت نفسي عالقا داخل نسيج قصة طويلة». هذه القصة، التي يصفها بالقول إن «البورنوغرافية هي ايروتيكية فقراء الروح والجسد». كما جاء في مقابلة أجرتها معه صحيفة «باجينا 12» الأرجنتينية، بعد صدور الكتاب، الذي اتجه فيه، إلى الغوص مجددا في أبعاد الايروسية، ليضيف بالقول: «انه في زمن المحرمات، كانت للروح البشرية الوسائل لكي تثور وتمارس حريتها وإبداعها من خلال الاستيهامات (الفانتسمات) والاحتفالات السريّة التي كانت تضفي بعدا جماليا على فعل ممارسة الحب».
يدفع يوسا، ب«الصغير فونكيتو» (وهو إحدى شخصيات الرواية) إلى التساؤل عمّا إذا كان شخصا انفصاميا. كذلك نجد لوكريثيا، بطلة الرواية، التي تقول إنها تملك نوازع انفصامية مثل «الرسامين والشعراء والموسيقيين». وخلال حديثه إلى الصحيفة الأرجنتينية يتفاجأ يوسا بأنه لم يذكر الروائيين، ضمن هذه السلسلة «المصابة بالانفصام»، لأنهم مثال واضح على ذلك... ويستدرك أن السؤال لم يكن مطروحا إذ انهم كذلك ويضيف: «في غالب الأحيان أشعر أننا نتفتت ونتوه. حينذاك يحمل لنا الأدب نظاما ما. فالكتابة هي البحث عن الطمأنينة داخل اللاطمأنينة. إنها نوع من عصا سحرية جديدة تدمج داخل ترنيمة منطقية وعقلانية ما يمكن أن يكون عليه الخواء المطلق. ومن جهة أخرى، نكتب كي نعيش ما لا نستطيع أن نحياه في الواقع. فكل كائن بشري حتى وان لم يكن كاتبا يحلم بحيوات أخرى، ومن جهتهم، يعطي الروائيون المثال على ذلك.
يجعل يوسا من الخيال العنصر الأساسي في حياة بطل روايته دون ريغوبرتو، الذي بفضل استيهاماته (الايروتيكية في غالب الأحيان) يستطيع أن يتخطى كماً من مشكلات الحياة، مثلما يتخطى «عتمة وجوده» المتمثلة في كونه عميل شركة تأمين ويضيف يوسا في حواره: «كان هولدرلن يقول إن الإنسان إله حين يحلم، وبالكاد يكون شحاذا عندما يفكر، لنقل إننا أغنى واكبر وأكثف عندما نحلم، هكذا هو الأمر. فالمخيلة جديرة بإنتاج حياة أكثف وأكثر تماسكا، وهذا هو دور القصص: أي أن تعطينا ما لا نملكه، فبالنسبة إلى ريغوبرتو، تكمن الحياة الحقيقية في استيهاماته وليس في رتابة العمل الذي يجعله مكبوتا.
لكن هناك أيضا في هذه الرواية نوعا من القلق الذي يبقى معلقا حين يحلّ الهذيان مكان الخيال». فبرأي الكاتب (كما يقول في مقابلته هذه) يعود ذلك «لكي لا نتخطى الحدود، أعتقد انه لا ينبغي قطع حبل السرّة مع الحياة الواقعية. لقد احتقرت دائما فكرة الكاتب الذي ينعزل، الذي يقطع الروابط مع العالم، مثلما فعل مارسيل بروست في نهاية حياته، ترعبني هذه الفكرة، لان هذه القطيعة هي من دون شك ما يطلق عليها اسم الجنون. لم أحب يوما الأدب الذي ليس إلا هربا صافيا من الواقع».
في روايته الأخيرة (بالأحرى ستصدر له رواية جديدة في تشرين الثاني المقبل) «شيطنات الطفلة الخبيثة» يعود يوسا ليصالحنا مع الأدب، إذ استطاع القيام بذلك في هذه الرواية التي قد تبدو للبعض على قدر من الهذر (ظاهريا) إلا أنها في الواقع رواية «فعّالة» بشكل حيوي. لقد استطاع يوسا أن يمزج فيها تقنيات التحليل الاستبطاني الكلاسيكي عبر كتابة «سريعة»، أساسية، ذات إيقاع أدبي صرف. باختصار يمكن القول إنه تمكن في هذا النص من أن يزاوج بين أفضل ما في الرواية الكلاسيكية التقليدية - (انحداره من أعمال غوستاف فلوبير وأدبه، أمر واضح كلّ الوضوح، كما أنه لم يتوقف يوما عن مديح سلفه الفرنسي) وبين الإبداعات التي هي بدون حدود والمناخات الاكزوتيكية والعمق التاريخي.
كلّ ذلك يمرّ من أمام أعيننا من دون أن تقع اللُحمة الروائية في أيّ قيمة أيديولوجية أو أن تسقط في درس أخلاقي ما. ربما تكمن حقيقة هذا المشروع بأسره في أن الروائي، يرغب في أن يعود ليشاهد علاقته مع زمنه. ومن دون أن يسقط في الرواية التاريخية وهو نوع يقدره لكنه لا يشكل أي خاصية في خياراته نجده يبحث عن توازن ما في «كاووس» الحياة، عن هذه الحياة المضطرمة وغير المتوقعة، أي عمّا كانت عليه حياته نفسها. من هذه النقطة نفهم هذا المشروع الذي اختاره: زيارة ذكريات طفولته مجددا وكلّ الطوباويات التي كانت سائدة في تلك الفترة.
بيد أن الأمر الجميل، المثير، في هذه الرواية «الكوسموبوليتية» يكمن في أن يوسا يجعل الرواية أشبه ببرج مراقبة يسمح له بأن يعود ويرى كلّ شي، بأن يزور مجددا كلّ الأمكنة التي لعبت دورا ما في حياته يوما، هذه الأماكن التي جعلته سعيدا: باريس في الدرجة الأولى التي يضفي عليها سحرا لم نجده من قبل. أضف إلى ذلك إلى أن نعود لنرى مجددا كل الآمال والتطلعات «الأخروية» التي كانت سائدة في تلك الحقب المختلفة مقارنة مع تضاداتها القاتلة، أي من حركة الدرب المضيء إلى الكاستروية، ومن «موت الإنسان» وصولا إلى «الرغبة في الثورة» التي كانت موضة جيل ال68 الأوروبي الذي لم يكن يعرف كيفية إبداع مستقبله مجددا. لكن اللحظات الأجمل والأروع في هذه الرواية، تلك التي تأتي من مناخ آخر، هو المناخ الياباني إذ ينحو إلى سبر أغوار المازوشية الإيروسية، وعلى غير المتوقع، إذ لا بدّ أن تتساءل كيف أمكنه إلى هذه الدرجة، أن يكون خبيرا بهذه الأمور التي كتب عنها جورج باتاي مطولا.
في أيّ حال، أن يحز يوسا نوبل للأدب، ليس سوى أمر جميل، إذ انه واحد من الشغوفين بالأدب، وبفضل هذا الشغف استطاع أن يرسم، في رواياته، علاقة أخرى بين المتخيل والواقع، أو كما يقول، بين الحقيقة والكذب، لأنه يعرف جيدا كيف يسحر القارئ عبر بحثه في تجربته الخاصة وعبر اختياره لدروب سردية قد تثير اضطرابا ما، لكن من دون أن يسقط في الاستهجان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.