فى تصريحاته التى أطلقها تعليقا على بيان المطالبة بإقالته الذى وقعه 102 مثقف، نصب الوزير فاروق حسنى نفسه وصيا على الفنون والثقافة، وذلك بعد أوراق متبادلة بينه وبين اتحاد كتُاب مصر، وهو جهة من المفترض أن تكون «مستقلة»، ليقول: «المثقف لابد أن أعرفه لأسباب كثيرة، من بينها أن المثقف لابد أن يكون فاعلا لشعبه، ويعمل من أجل خدمته، مثل الدكتور جابر عصفور والدكتور فوزى فهمى والدكتور صابر عرب وكل من يعملون فى وزارة الثقافة، لأنهم خدم لشعوبهم». وختم تصريحاته بأن الموقعين على البيان ليسوا أعضاء باتحاد كتُاب مصر، واصفا نفسه ب«المثقف»، ومستنكرا، حسب تصريحاته للمصرى اليوم، هذه الصفة على موقعى البيان قائلا إنهم لم يظهروا فى أى عمل أو نشاط ثقافى، ولم نرهم فى متحف أو معرض أو منطقة أثرية. فى السطور التالية نحاول أن نرشد الوزير إلى معنى كلمة «مثقف»، لكن للأسف خرج معظم ذلك الإرشاد من أفواه مثقفين لا ينطبق عليهم وصف «المثقفين» كما يعتقد ويظن الوزير إذ ليسوا من أعضاء اتحاد كتُاب مصر، ولا ينتمون إلى أى مؤسسة ثقافية رسمية.. المفكر الكبير جلال أمين قال إن المثقف هو الشخص المهموم باستمرار بقضايا فكرية، أى لديه «همّ دائم» لكل شىء من حوله فيعمل على تحويله إلى قضية تشغله طوال عمره. وعن المعرفة الواسعة وهل هى الثقافة؟ ذكر أمين أن المعرفة الواسعة ليس شرطا للثقافة أو لوصف المثقف إذ إن الشخص الذى لديه معرفة واسعة ولكن لا يحولها إلى هموم فكرية لا يستقيم أن نطلق عليه لفظ «مثقف». وبحسرة أكد أمين أن مصر بها الكثير من حاملى شهادات الدكتوراه والماجستير، ولكن من غير المنطقى أن نطلق عليهم لفظ «مثقفين» طالما لم يكن لديهم الهم الفكرى. وعلق أمين ساخرا من ربط المثقف بعضوية اتحاد الكتاب قائلا: «هذا كلام فارغ». تنصل واضح وبعبارة «لا أكاد أصدق أن هناك شخصا يفكر بهذه الطريقة».. أكد الكاتب الكبير علاء الأسوانى أن المثقف موقف، موضحا أن إطلاق حسنى لفظ ناشط سياسى على بعض الموقعين على البيان، خاصة الدكتور عاصم الدسوقى والمستشار محمود الخضيرى، سذاجة أو سوء نية وغرض, إذ لا يمكن اختصار تلك القمم الفكرية والثقافية فى لفظ «ناشط سياسى» مشيرا إلى أن هذا اللفظ لا يجوز استخدامه فى الدول الديكتاتورية كمصر بل يُستخدم فى الدول الديمقراطية، التى تسمح بهذا النشاط السياسى، أما فى مصر فكلنا مهتمون بالعمل العام. وسأل الأسوانى: ما معنى أن يكون المثقف عضوا باتحاد الكتُاب؟ أليس من يعمل بالسينما والفن التشكيلى مثقفا؟ أليس رجال القضاء الأجلاء مثقفين؟ وأوضح الأسوانى أن تصريحات الوزير سخيفة لدرجة لا يمكن مناقشتها، وهى محاولة منه للتنصل من غضب المثقفين، الذين يطالبونه بالاستقالة. فالتنصل هو الموهبة الكبرى لفاروق حسنى، كما يرى الأسوانى، إذ هو «متنصل عظيم، عن طريق ميليشياته ومستشاريه الذين يكتبون له البيانات، ويدافعون عنه مقابل عطايا وهدايا. ويجب ألا ننسى ما فعله أيام حريق قصر بنى سويف، وإهداره للمال العام فى هزيمته فى انتخابات اليونسكو، وأخيرا سرقة لوحة زهرة الخشخاش. إن ما فعله فاروق حسنى كان كفيلا بإقالة الحكومة كلها لو كنا فى بلد ديمقراطى». وختم الأسوانى قوله بأن الذى لا يعرف من هما الخضيرى والدسوقى يجب ألا ينتسب إلى الثقافة فما بالنا بوزيرها. تصريحات تدعو إلى الضحك الدكتور عاصم الدسوقى وهو مؤرخ متخصص فى التاريخ المعاصر الاقتصادى والاجتماعى، والعميد السابق لكلية آداب جامعة حلوان، وعضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وأحد الموقعين على البيان الذين لا يعرفهم الوزير المثقف فاروق حسنى أكد لنا أن تصريحات الوزير تدعو إلى الضحك من مستوى تفكيره إذ وهو وزير الثقافة لا يمتلك حقيقة تعريف للمثقف، وكأن غير أعضاء الاتحاد ليسوا بمثقفين «عيب أن يكون فاروق حسنى على رأس وزارة الثقافة». وقال الدسوقى: «وأدلى هنا إلى وزير الثقافة بتعريف بسيط للمثقف، وهو الذى يعرف من كل شىء شيئًا، وشيئًا عن كل شىء»، وأوضح الدسوقى أن المثقف لابد أن يكون له موقف واضح كما نقول «مثقف ثورى, وآخر ليبرالى وثالث رجعى» أى على حسبما يعتنق من آراء تهدف إلى تغيير المجتمع. الدكتور محمد الجوادى المؤرخ وعضو مجمع اللغة العربية أكد بوضوح أن المثقف الحقيقى هو الذى يلم بكل شىء، وفى تعريف آخر هو الذى يعرف شيئا عن كل شىء حتى لو كان الشىء قليلا، وبلغة الشارع المثقف هو صاحب الفكر الذى يمارسه ويتأثر به ويعلى من شأن قيم معينة، ولا يخضع أفكاره لمنطق الربح والخسارة وإنما إلى منطق الجمال والحق والخير. وبذلك يمكن القول، حسب رأى الجوادى، إن كل من يتخذ موقفا سياسيا ينضم إلى الجماعة الثقافية. صكوك اعتراف أما الناقد الدكتور صبرى حافظ الذى أعاد نشر البيان فى مجلته «الكلمة»، وهو عضو باتحاد الكتاب فقال إن البحث عن ذرائع من نوعية أن بعض الموقعين ليسوا أعضاء باتحاد الكتاب أمر طبيعى, ومتوقع من فاروق حسنى الذى يتصور دائما أن المثقفين هم فقط الذين استطاع أن يدخلهم إلى الحظيرة، فتحولوا من مثقفين إلى سكان حظيرة وزير الثقافة. وأوضح حافظ أنه من الطبيعى إذا كانوا مثقفين قبل دخولهم الحظيرة، فإن دخولهم إليها يفقدهم الكثير من خصائص المثقف. وفى تعريفه للمثقف، قال حافظ: يجب أن يكون تفكيره ذا استقلالية عن المؤسسة، ومعبرا عن الضمير الجمعى للثقافة الوطنية، فالمثقف هو من يستطيع أن يعمل قدرة العقل النقدى سواء تخصص فى الآداب أو التاريخ أو القانون, لأن قدرة المثقف على إعمال العقل النقدى بعيدا عن المؤسسة الرسمية تمنحه الشرعية والمصداقية. وأوضح حافظ أنه ليست من مهمة وزير الثقافة إعطاء صكوك اعتراف لمثقف دون آخر، إنما أن ينفذ رؤية الثقافة المصرية المستقلة، وأن يتيح التعبير عن أمانيها. ومن المفارقات الدالة أن الوزير بينما يدعو إلى مؤتمر للمثقفين هناك آخرون يدعون إلى مؤتمر مضاد. وأشار صبرى إلى أنه آن الأوان بعد أكثر من 20 عاما من بقائه على كرسى الوزارة أن يدرك حسنى أن هناك الكثير من المثقفين المصريين الشرفاء المستقلين لم ينجح فى إدخالهم فى حظيرته، وأن يحولهم إلى قطعان تنفذ رؤيته الفاسدة, والتى انتهت إلى هذا الخراب فى كل المناحى الثقافية. الجميع يعرف ما آلت إليه حالة الثقافة المصرية، التى كانت منارة للثقافة العربية كلها قبل أن يجلس حسنى على كرسى الوزارة. ويشدد حافظ على أنه لابد أن ننظر كيف نُهبت الآثار والمتاحف وخربت المسارح، وتدهور حال النشر فى وزارته، وهو لا يزال على كرسى الوزارة بعد إخفاقه فى الحصول على منصب مدير اليونسكو، رغم أنه وعد بأنه سيرحل سواء فاز أو لم يفز، ولكنه يخلف وعوده دائما. وختم صبرى كلامه قائلا: «ولا أظن أن هناك أكثر تمثيلا للثقافة المصرية من أسماء مثل صنع الله إبراهيم وعاصم الدسوقى وغيرهما ممن لا يعترف الوزير بأنهم ضمن الجماعة الثقافية، لأنهم وقعوا على بيان لرحيل منظومة الفساد فى وزارة الثقافة». أما الدكتور محمد هشام الباحث والمترجم فقال إن المثقف يجب أن يكون ناقدا ورقيبا وليس مهجنا وديعا داخل أى هيئة غير مستقلة، مشيرا إلى أن ما يحدد المثقف هو إنتاجه الفكرى، وحضوره فى المشهد الثقافى لا عضويته فى اتحاد الكتُاب أو غيره، فمثلا الراحل فاروق عبد القادر أعظم النقاد لم يكن عضوا فى اتحاد الكتاب، فهل لا نطلق عليه أنه كان مثقفا؟! وعلق دكتور هشام وهو أحد الموقعين على بيان إقالة فاروق حسنى على ربط الثقافة بعضوية الاتحاد قائلا: «لا يشرفنى أن أكون عضوا فى الاتحاد، فهو اتحاد حكومى يفتقد إلى أبسط شروط الاستقلال والحرية، وليس معبرا عن هموم المثقفين. لكن لا يعنى ذلك أن أعضاءه يفتقدون إلى الاستقلال، فهناك فرق بين الاتحاد كمؤسسة وبين أعضائه». وأشار هشام إلى أن تصريحات الوزير تعتبر نوعا من الإرهاب لحرية الاختيار؛ لأن من حق كل كاتب ألا ينضم إلى أى مؤسسة أو اتحاد حتى لو كان من أعظم اتحادات العالم، فما بالنا باتحاد صدر بقرار حكومى لا بقرار من المثقفين أنفسهم. وفى حديث سابق مع الفيلسوف الدكتور مراد وهبة قال إن المثقف كتعريف هو الذى يبحث عن جذور الوهم فى المجتمع الذى يعيش فيه، ويحاول أن يجتث هذه الجذور، وهذا هو دوره، ولا يعتمد على أى سلطة أخرى. ورأى وهبة أنه لابد من ظهور السلطة الثقافية، التى تهتم بإحداث التغيير فى المجتمعات سواء كان تغييرا جذريا أو تدريجيا، فهو لا يهتم إلا بالمثقفين وبالسلطة الثقافية. أما المثقف الذى لا يريد أن يمارس سلطته فلابد أن يعلن تنازله عنها بل إنه يشارك فى التخلف وقتل الإبداع. وهنا لا يفصل مراد وهبة بين الإبداع والسياسة، حيث يرى أن هناك «ثمة علاقة عضوية بين الإبداع والسياسة، ومن المحال الفصل بينهما».