«لكل تراث تراثُ، ولكل سابق أسبقُ»... ظلت هذه المقولة التى أطلقها الدكتور يوسف زيدان فى المؤتمر الدولى السابع لمركز مخطوطات مكتبة الإسكندرية، مثار جدل وصدمة فكرية للحاضرين فى المؤتمر الذى جاء تحت عنوان: «التواصل التراثى...أصول ومقدمات التراث العربى الإسلامى» بمكتبة الإسكندرية. يجىء الجدل من طرح سؤال حول: ما التواصل وما الانقطاع؟، ومع منْ نتواصل، ومع منْ نقاطع؟!، ولماذا ظهرت القطيعة وما أسبابها؟، وتظهر الصدمة نتيجة أن كثيرين من العرب والمسلمين، القدامى والمعاصرين، شغوفون دوما بالنظر فى الأثر الذى خلفته الحضارة العربية الإسلامية فى حضارة الإنسانية، وتأكيد التأثير التراثى العربى الإسلامى فى زمن النهضة الأوروبية الحديثة، وهو مسلك محمود مندوب إليه، كما أشار د. زيدان، سعيا لتبيان حضورنا فى تاريخ الإنسانية، ومن ثم، فى واقعها المعاصر. لكنه لا يمثل على الحقيقة إلا نصف الحقيقة! إذ إن النظر فى لواحق الأثر التراثى، من دون التمعن فى سوابق ذاك الأثر؛ هو أمر من شأنه تكوين صورة خيالية، ذهنية لكن غير واقعية، لتراثنا العربى الإسلامى. وهى الصورة التى تشكلت فعلا فى الأذهان ببطء راسخ، وأعطت يقينا كاذبا بأن هذه الحضارة، وما أعطته من تراث إنسانى، هى لمعة مفاجئة بدأت مع انتشار الإسلام وسيادة العرب للعالم، فتألَّقت حينا ثم انطوت، على قاعدة «وتلك الأيامُ نداولها بين الناس» فكأن تراثنا انطلق من دون أصول سابقة ومقدمات. لذلك يقوم مؤتمر «التواصل التراثى» منطلقا من فكرة حضارية، يجب تقديم التحية لها، وهى أن تراثنا العربى الإسلامى لم ينطلق من دون أصول سابقة ومقدمات. فكما كان التراث العربى الإسلامى مؤثرا فى الحضارة الأوروبية الحديثة؛ يجب أن نتساءل، مع الدكتور زيدان، ما هى التراثيات التى أثرت فى صياغة التراث العربى الإسلامى؟، وما الذى أخذه العرب المسلمون من علوم السابقين؟ وكيف أخذوه؟ وهل طوروه، أم حفظوه فحسب؟. وماذا عن اللغة العربية، وتفاعلها شفاهة مع اللغات السريانية والعبرية والفارسية، وكتابة مع أشكال التدوين السريانية والنبطية؟ وما دلالة المئات من الكلمات الباقية فى قلب اللغة العربية، من السريانية والفارسية والعبرية، سواء فى آباد النصوص العربية والنقوش والخربشات المطمورة، أو بين آيات القرآن الكريم الذى هو الكتاب المحورى فى حضارة العرب والمسلمين؟ وماذا عن المسيحيين واليهود والصابئة والمجوس، أعاشوا فى إطار الدولة العربية الإسلامية كأهل ذمة أو غير ذوى ذمة، بحسب المفهوم الفقهى، أم تعدى الأمر ذلك إلى مشاركة فعلية فى الظاهرة الحضارية العربية الإسلامية، ابتداء من استلهام حفر الخندق من العسكرية الفارسية، وانتهاء بترجمات يهود الأندلس للمتون التراثية العربية إلى لغتهم واللغة اللاتينية، ومرورا باستلهامات عربية إسلامية، لاحصر لها، من التراث المسيحى المتجلِّى فكرا فى علم الكلام ، وفنا فى شكل القبة، واقتصادا فى اعتبار مصر خزانة الدولة، ومعرفة فى ترجمة النساطرة لمتون العلم القديم من اليونانية والسريانية إلى العربية .. بعد هذه التساؤلات، يجب أن نشير إلى كلمة يوسف زيدان مدير مركز المخطوطات فى تقديمه لمحاور المؤتمر إذ قال: «لاشىء يطفُر فجأة فى الفراغ». ولولا أن موضوع هذا المؤتمر «التواصل التراثى» الذى يتزامن معه إقامة معارض لنسخ طبق الأصل من المخطوطات تم اختياره فى نهاية المؤتمر السادس الذى عقد العام الماضى، لاعتقد البعض أن هدف المؤتمر، إنما جاء ردا على دعوات مصادرة الكتاب التراثى «ألف ليلة وليلة». ولكن هذا لم يمنع الدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير المكتبة، من التأكيد على مواجهة الانغلاق المتزايد وعدوات المصادرة والمنع. شارك فى المؤتمر نحو 45 عالما من 16 دولة منها تسع دول عربية، وضم المؤتمر 32 ورقة بحثية شملت محاور المؤتمر الأربعة: الفلسفة والطبيعيات، والمعارف العامة والتاريخ، واللغة والتصورات الدينية، والفنون والآداب، لذلك من من غير المحتمل أن نتعرف على جميعها، رغم أهميتها، بل حاولنا أن ننتقى. نقاش وجدل. كانت الجلسات البحثية مثار نقاش وجدل حول التراث العربى الإسلامى، ودراسة القرآن واللاهوت المسيحى. وثار الجدل، حيث قال الدكتور بشار عواد معروف، الباحث بمؤسسة «آل البيت الملكية للفكر الإسلامى» بالعراق، إنه يرى أن المؤتمر يشهد جرأة غير عادية على القرآن الكريم، لا يصح أن يكون فى دولة مسلمة كمصر، بل «هذا مقبول فى الغرب لا فى الشرق»، مشيرا إلى بعض الأبحاث، خاصة بحث اللبنانية الدكتورة هدية الأيوبى «المؤثرات الأسطورية فى الأدب العربى بين الجاهلية والإسلام» حاول وقتها الدكتور رضوان السيد الباحث المعروف بالمعهد العالى للدراسات الإسلامية بلبنان أن يشرح للدكتور معروف أنه لا توجد جرأة، وإنما نقاشات علمية تحاول إثبات أنه ليس من المهم الكشف عن تأثير القرآن بالديانات السابقة عليه، وإنما دراسته كنص فقط، دون الالتفات إلى تأثره بالديانات الأخرى، كاليهودية والمسيحية، والتى رآها الدكتور رضوان واحدة فى مضمونها. كما حملت الجلسات نقاشات رائعة دارت بين محمد سليم العوا ويوسف زيدان وحسن حنفى وآخرين، حول التواصل التراثى والأفكار الجدلية التى طرحها حسن حنفى فى بحثه «جدل التواصل والانقطاع فى التراث الإسلامى»، فهو يرى أن التواصل والانقطاع فى التراث الإسلامى له معنيان، الأول التواصل والانقطاع بين الحضارات. فالتراث الإسلامى إحدى حلقات التراث القديم، الفارسى والهندى شرقا، واليونانى والرومانى غربا. أخذ وترك، نقد وطور، انقطع وتواصل، ولكنه تواصل أكثر مما انقطع لقدرته على تمثل الآخر. والثانى هو التواصل والانقطاع داخل التراث الإسلامى وتياراته. وقال حنفى إن التراث يظل حيا ما لم ينقطع أحد جانبيه، وإذا حسم الأمر لصالح أحد الطرفين الظاهر والباطن، والنقل والعقل، والشريعة والحقيقة بفعل السلطة السياسية وإقصاء المعارضة ساد التراث الواحد. وغالبا ما يسود التراث الذى يغلِّب الظاهر والنقل والشريعة، فإذا ما تغيرت الظروف الاجتماعية والسياسية يمكن إعادة الاختيار بين البديلين حتى تعود التعددية للتراث والحوار بين الموقفين المتعارضين بدلا من سيطرة الرأى الواحد وتكفير الرأى الآخر. اللافت للنظر أن الدكتور حسن حنفى ظل كثيرا فى ورقته البحثية يستعرض ويحلل ويحشر كميات كبيرة من المعلومات إلى أن أطلق بعض النقاط الجدلية، وهو تأكيده أن موقف الشريعة الإسلامية «القرآن» من بعض الأمور، إنما جاء لأمور اقتصادية لا دينية، خاصة التى تعارض مصالح اليهود الاقتصادية مثل تحريم الخنازير، وشرب الخمر. وبعد انتهاء حنفى من كلمته تتداخل د. زيدان ضاحكا مشيرا إلى أن الدكتور حنفى، وهو أستاذه، غالبا ما يعمل على إشغال الحضور بالمعلومات الكثيرة ثم يطرح القارئ أرضا بنقاط جدلية. وقد كان رؤساء الجلسات منتبهين لهذه المسائل الخلافية فأحكموا الجلسات، مع احترام الآراء واختلافها. الترجمة للتجديد لا للنقل وفى إجابة على ما يدور فى ذهن الباحثين حول مفهوم النقل والترجمة، أكد الدكتور رشدى راشد، الأستاذ المتفرغ المركز القومى الفرنسى للأبحاث العلمية فى بحثه عن «تجديد الأصول: نشأة الفكر العلمى والفلسفى فى الإسلام» أنه يجب التخلى عن مفهوم النقل والترجمة السائد، فنقل الأصول اليونانية إلى العربية جاء محصلة لجهود وتوجهات البحث العلمى والفلسفى الذى قام به العلماء العرب، وتلبية لاحتياجاتهم البحثية، مضيفا أن الترجمة للإرث اليونانى جاءت لتجديد هذا الإرث، أى أن الترجمة كانت بسبب البحث العلمى، وليس مجرد النقل، إذ إن البحث يسبق النقل، والنقل يجىء لتغذية البحث. كتاب الفهرست للنديم أما الدكتور أيمن فؤاد سيد فقد قدم ورقة بحثية شيقة مهدت للحاضرين معرفة أصول ومقدمات التراث العربى من خلال كتاب الفهرست لابن النديم، عارضا للأعمال الأولى للمؤلفين العرب والمسلمين، التى لم تصل إلينا أغلبها، والتى كانت أساسا للمؤلفات الإبداعية التى أنتجها علماء القرنين الثالث والرابع للهجرة. الملاحظ أن مشاركات الأجانب، خاصة مشاركة اليونانى «قسطنطين كانافاس»، والفرنسية «هيلين بيلوستا»، واليونانية «أنجيلكى زياكا» كانت هادئة ربما بسبب لغتها الإنجليزية والتى صاحبتها ترجمة عربية موضوعات غير الجدلية إلا أن الجلسة الثامنة والتى ترأسها الدكتور حسن حنفى وشارك فيها باحثون أجانب من كندا وبريطانيا وألمانيا، فكانت مثيرة لإعمال العقل إذ تناولت للمقدمات التاريخية للنص القرآنى، والأنبياء والرسل فى القرآن، والقرآن والعصور القديمة. واشتد الكلام بين الحاضرين حول لاهوت وناسوت السيد المسيح، ولكن توقف هذا الكلام بعد تدخل الدكتور حسن رافضا أن نناقش المسائل اللاهوتية والجدل حولها. يذكر أن مؤتمر هذا العام يقام فى إطار أنشطة مشروع مانوميد (المخطوطات المتوسطية) وهو مشروع يُعنَى بالتراث المكتوب والشفهى فى أوروبا وحوض البحر المتوسط، ويموِّله الاتحاد الأوروبى فى إطار برنامج التراث الأوروبى المتوسطى.