صدر فى الثالث من شهر أكتوبر الماضى كتاب للصحفى اليهودى الأمريكى ناثان ثرال بعنوان «يوم فى حياة عابد سلامة: تشريح لمأساة القدس» تحدث من خلاله عن مأساة الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلى من خلال نقله لواقعة حقيقية لانقلاب حافلة تلاميذ فى الضفة الغربية ومحاولات الأب عابد سلامة فى الوصول لابنه «ميلاد» الذى كان من بين التلاميذ بعد أن تم نقلهم لمستشفيات عشوائية وتعقيدات التصاريح الأمنية والأوراق اللازمة للمرور وبطاقات الهوية التى وضعتها إسرائيل فى طريقه. وقد نشر «ثرال» عام 2021 مقالًا من 20 ألف كلمة بعنوان «يوم فى حياة عابد سلامة» نقل من خلاله تفاصيل قصة ذلك الحادث المروع الذى شهدته الضفة الغربية على امتداد طريق سريع يعانى من سوء الصيانة حين انقلبت حافلة تقل تلاميذ مدارس فلسطينيين مما أدى إلى مقتل وإصابة العديد ممن كانوا على متنها، وقد استخدم «ثرال» هذه المأساة ليعكس المأساة الأكبر والأكثر تعقيدًا حول الصراع بين إسرائيل وفلسطين مشيرًا إلى الظلم الذى يضطر السكان العرب فى الضفة الغربية إلى تحمله بشكل يومى. وقام «ثرال» بتحويل هذا المقال لكتاب يحمل نفس الاسم أشادت به صحيفة «الجارديان» البريطانية عبر مراجعة نقدية حديثة، ويعتمد الكتاب فى قالبه على التقارير الصحفية، ويتعمق فى حياة عابد سلامة وعائلته، متتبعًا سلسلة الأحداث التى أدت إلى صعود «ميلاد»، نجل «سلامة»، إلى الحافلة، وبدلا من ترتيب الأمر ترتيبًا زمنيًا، جعل «ثرال» السرد يتنقل بين الحادث وتحطم الحافلة وبين الأحداث الموازية التى يتعرض لها الفلسطينيون من ناحية أخرى. وذكرت المراجعة النقدية أن أحد الأشياء المذهلة فى الكتاب هو وصف الطريقة التى تتسرب بها السياسة إلى كل جانب من جوانب حياة أولئك الذين يعيشون فى فلسطين، وتسليط الضوء على تبعات الصراع، والأوضاع المتردية للفلسطينيين، والمشكلات والنكسات التى كان يتعين على «سلامة» وعائلته تحملها والتى كان من الممكن تجنبها بالكامل مع وجود سياسيين أفضل وإجراء بعض التعديلات الصغيرة على سياسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطينى. وتعمق «ثرال» عبر صفحات الكتاب فى حياة «سلامة» الشخصية؛ فتحدث عن حبيبة الطفولة التى اضطر للتخلى عنها بعد نزاع عائلى، وزواجه البائس، ثم طلاقه الذى كان مدفوعًا جزئيًا بالحاجة إلى تأمين الأوراق المطلوبة للمرور عبر نقاط التفتيش، كما صوّر الكاتب بكل صراحة الهيمنة الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين التى وصفها بأنها «مطلقة وشاملة» وهو ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو «السلطة الحيوية»؛ حيث يتم التعامل مع السكان باعتبارهم مشاكل يتعين حلها من خلال آليات الانضباط والسيطرة. وفى المقال، ركز «ثرال» فقط على حياة «سلامة»، أما فى الكتاب فتفرع إلى قصص أخرى أكدت جميعها على مأساة فلسطين، فالأمر لم يكن مجرد حادث، بل نتيجة لسياسة الفصل العنصرى المتعمدة التى اتبعها الإسرائيليون، والتى سعت دائمًا إلى جعل كل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية أكثر صعوبة وخطورة. وتحدث الكتاب عن زيارة واحدة من الأطباء الأوائل الذين وصلوا إلى مكان الحادث، وهى طبيبة الغدد الصماء من رام الله وتُدعى هدى دحبور، والتى قامت بمساعدة إحدى المعلمات فى الحافلة وأحد المواطنين من مدينة الخليل، كما قامت بإنقاذ عدد من الأطفال، وقد أعادتها تلك المأساة إلى الفظائع السابقة، بما فى ذلك القصف الإسرائيلى لمقر منظمة التحرير الفلسطينية فى تونس، عندما تم تكليفها باستعادة أجزاء جسم إحدى الضحايا بعد أن تحول إلى أشلاء، وقد وصفت الطبيبة كيف أن الرعب فى فلسطين يصبح نسيجًا للحياة، ومحاولات إسرائيل المستميتة لقمع الشعب الفلسطينى، وإجباره على قبول الحياة تحت مظلة الذل والهوان. وأشارت المراجعة إلى أن كتاب «ثرال» ظهر فى فترة مظلمة من تاريخ إسرائيل مع وجود بنيامين نتنياهو كرئيس وزراء إسرائيل وشركائه فى الائتلاف اليمينى المتطرف؛ وهى فترة تسعى إلى تجريد النظام القانونى من أى مظهر من مظاهر الاستقلال، وتحييد الصحافة، وإسكات أصوات المنتقدين. وفى النهاية، أوصت المراجعة النقدية القارئ الغربى بقراءة الكتاب من أجل التعاطف مع الجانب الفلسطينى وفهم أبعاد الصراع، وأشادت المراجعة بتسليط «ثرال» الضوء على طبيعة الصراع الإسرائيلى الفلسطينى بمنتهى الوضوح والصدق؛ لاسيما من خلال وصفه لحياة عادية عالقة بين فكى التاريخ. جدير بالذكر أن ناثان ثرال متخصص فى تحليل الصراع العربى الإسرائيلى، وصدر له سابقًا كتاب «اللغة الوحيدة التى يفهمونها: فرض التسوية فى إسرائيل وفلسطين»، وهو أيضًا محلل كبير سابق فى مجموعة الأزمات الدولية غير الحكومية، ويكتب بانتظام للمطبوعات الدولية بما فى ذلك صحيفة «النيويورك تايمز» وصحيفة «الجارديان» ومجلة «نيويورك ريفيو» للكتب.